لابد من بغداد.. وإن طال السفر
أستعير أبياتا من الشعر قالها الشاعر اليمني الكبير المرحوم عبد العزيز المقالح حبا في صنعاء التي هام بها كما لم يحب مدينة أخرى:
يوما تغنى في منافينا القدر
لابد من صنعاء وإن طال السفر
لابد منها حبنا أشواقها
تدوي حوالينا إلى أين المفر
إنا حملنا حزنها وجراحها
تحت الجفون فأورقت وزكى الثمر
وبكل مقهى قد شربنا دمعها
الله ما أحلى الدموع وما أمر
لعل هذه الأبيات بجمالها وصدق قائلها تنطبق على معظم عواصمنا العربية، إلا أنها أقرب ما تكون إلى بغداد، التي تركت لنا تراثا حضاريا عظيما في كل مناحي الحياة، وكانت دائما حاضرة حينما يكون الحديث عن الثقافة بكل مفرداتها الفنية والأدبية. كنت أتطلع دائما إلى ما خلفته بغداد من تراث شعري وأدبي وتاريخي، ولم أكن قد زرت هذه العاصمة الكبيرة، العظيمة حتى عام ٢٠١٣، ولعلها العاصمة العربية الوحيدة التي لم أكن قد شرفت بزيارتها، إلا أنني كنت عاشقا لها عن بُعد من خلال قراءتي عن تاريخ العراق، ومعرفتي الشخصية ببعض مفكريها وشعرائها وفنانيها، إلى أن تلقيت دعوة من الصديق سعدون الدليمي، وزير الدفاع والثقافة وقتئذ، وكنت أتعجب كيف يمكن الجمع بين الثقافة والدفاع، وهو السؤال الأول الذي وجهته إلى سعدون الدليمي، حينما استقبلني في المطار: كيف يمكن الجمع ما بين الدفاع والثقافة في وزارة واحدة؟
كان الرجل صريحا في إجابته حينما أجابني قائلا: يا صديقي لقد رأى الأمريكان التخفيف من عسكرة الدولة، لذا كان اقتراحهم بالجمع بين القوى الناعمة والقوى الخشنة. كانت هذه الزيارة في بداية عام ٢٠١٣، كنت أريد الاطمئنان على العراق بعد الأحداث التي سالت فيها الدماء، والتي حصدت أرواح آلاف القتلى، ودمرت الكثير من مرافق العراق، الذي نُهبت متاحفه ومقتنياته الفنية والتراثية، ودخل العراق في أتون حرب أهلية أحالت العراق العظيم إلى ساحة كبيرة للتنافس الدولي، واستبيحت المدن العراقية ما بين الأمريكان والغرب من جانب، وجماعات القتل المذهبية من جانب آخر. كنت أريد معرفة أحوال الناس، لكن إقامتي كانت فيما سمي بالمنطقة الخضراء المدججة بكل وسائل الحماية، وكانت مقرا للحكومة واستقبال الضيوف، وكان من المقرر أن تكون زيارتي لمدة ثلاثة أيام، ولم يكن في برنامجها الخروج من هذه المنطقة، إلا أنني كنت ألح على الوزير للخروج إلى بغداد عاصمة الرشيد، أتجول في شوارعها، وأجلس على مقاهيها، وأتحدث مع أهلها، وفي كل مرة كان الوزير يؤجل لأسباب أمنية.
في صباح اليوم الثاني، كنت على موعد للقاء رئيس الوزراء نوري المالكي، ذهبت إليه بصحبة الوزير الدليمي، داخل المنطقة الخضراء حيث الحواجز والمتاريس، لدرجة أن السيارة قد قطعت المسافة ما بين مقر إقامتي ومكتب رئيس الوزراء فيما يقرب من ساعة، بينما المسافة لا تزيد عن عشرة كيلومترات. كنت أحمل أسئلة كثيرة لعل معظمها كان بعيدا عن البروتوكول المعهود، وكان اللقاء مفعما بالمشاعر، حينما راح الرجل يتحدث عن العراق القادم، الذي أرهقته الحروب، وهو يتطلع إلى دعم الدول العربية، وحدثني عن مصر التي يعرفها ويعرف تاريخها، وتحدث عن حجم العقبات التي تحول دون أن يتبوأ العراق مكانته في العالم العربي، أمور كثيرة ربما لا أتذكر الكثير منها، لكنني لاحظت أن الرجل كان مهموما وبدت على وجهه علامات الألم وقسوة الظروف والتحديات التي يواجهها، وطوال اللقاء كنت مستمعا للرجل الذي أفاض في حديثه خلال ساعة كاملة.
كنت ألتقي بالوزير الدليمي صباحا ومساءً، وكان الحديث عن مشروعاته الثقافية التي يخطط لها ورغبته في إقامة نشاط ثقافي مشترك في القاهرة وبغداد، إلا أنني كنت في كل لقاء لي معه ألح على زيارة بغداد التي قرأت عنها، أتجول في شوارعها، أزور مكتباتها، أجلس على مقاهيها، وفي كل مرة لا أجد إجابة، إلا أنه أخيرا أخبرني أن كل شيء قد أعد للخروج إلى بغداد.
في صباح اليوم الثالث كانت الجولة قد رتب لها، خرجت من الفندق لأجد في استقبالي اللواء قائد المنطقة العسكرية في بغداد، إلا أنني فوجئت أننا سنستقل مدرعة عسكرية صعدت إليها وجلست بجواره، بينما مدرعة أخرى خلفنا، وعلى الطريق كان ركب من الدراجات البخارية، يقطع شوارع بغداد. سألني: نبدأ من أين؟ أجبته: دعنا نتجول في شوارع بغداد، ونحن في طريقنا إلى بيت الحكمة راحت المدرعة تخترق شوارع بغداد، الكثير من البيوت قد اخترقتها الرصاصات وبعضها قد انهارت حوائطه، الناس هائمون في الشوارع، وبغداد تتشح بالحزن والألم، المحلات خالية تقريبا من المترددين والمقاهي بائسة لا أحد في داخلها، وصلنا إلى نهر دجلة، حيث يقع بيت الحكمة، المبنى عريق ومنظر النهر بديع، إلا أن الصمت في كل مكان وبمجرد أن نزلت من السيارة دلفت إلى المكان، وقد استأذنني اللواء بأنه سيبقى جالسا في المدرعة.
كان في انتظاري مدير بيت الحكمة، وبعض العاملين معه، وقد استقبلوني بحفاوة بالغة، ورحت أتجول في ردهات هذه المكتبة العريقة التي تضم أعظم ما خلفه التراث العربي، ابتداء من عصر الطباعة فضلا عن كثير من المخطوطات النادرة منذ العصر العباسي، وقد انتابتني سعادة غامرة، فلم يتعرض بيت الحكمة لأية اعتداءات كما حدث للمتاحف والقصور التاريخية، وبعد جولة استمرت ما يقرب من الساعة، بعدها أتيحت لي فرصة الحديث مع القائمين على هذه المؤسسة العريقة، حدثوني بتحفظ شديد عن أحوالهم وظروف عملهم، وعندما هممت بالخروج أصروا على أن أتناول طعام الغداء معهم، قبلت دعوتهم وعلى نهر دجلة وأمام بيت الحكمة، وتحت أشجار وارفة تبين أنهم قد أعدوا الأمور مسبقا، نزل الضابط من سيارته وتناول معنا وجبة السمك «المسقوف»، وشربنا الشاي وقدموا لنا الفاكهة، وودّعوني بحرارة شديدة.
سألني اللواء المصاحب لي عن الوجهة التالية؟ قلت له. شارع المتنبي وميدان أبي نواس. راحت المدرعة تخترق الشوارع في مشهد غير مألوف، رحت أتطلع إلى المباني وأسماء المحلات وأسماء المقاهي، ودون استئذان وجدت نفسي مندفعا إلى الرصيف في شارع المتنبي، لاحظت قلقا شديدا على وجه الضابط، إلا أنني لم ألتفت إليه، رحت أتجول في المكتبات وأسماء الكتب المعروضة على الأرصفة. كان المشهد بائسا.. الأتربة في كل مكان وطريقة عرض الكتب ومنظر الباعة البائس، على الرصيف المقابل وجدت مقهى كبيرا، يبدو من الوهلة الأولى أنه مقهى قديم، دلفت إلى داخله، وكان خاليا من المترددين، كان المذياع معلقا على الحائط، وصوت ناظم الغزالي ينبعث بقوة وعذوبة. وقفت في قلب المقهى وقد وجدت رجلا مرتديا الزي العراقي الشهير وراح يرحب بي بحرارة شديدة، بعد أن عرفني بنفسه بأنه صاحب المقهى، ودار بيننا حديث مفعم بالألم، بعد أن لاحظت ثلاث صور معلقة على الحائط في إطار متشح بالسواد، وقد سألته: من هؤلاء؟ أجاب قائلا: أنا رجل تجاوزت الثمانين من عمري وهؤلاء هم أولادي الثلاثة، قتلوا العام الماضي في تفجير أمام المقهى، ثم مضى قائلا: لقد تركوا لي خمسة أحفاد أتولى تربيتهم وقد وعدني الله أنني سأعيش حتى أراهم شبابا، احتضنته ولم أتمالك دموعي التي راحت تنساب بعفوية، إلا أن الرجل كان قويا ولم يشاركني البكاء، ساعتها شعرت أن العراق سوف يتجاوز محنته. عدت إلى المدرعة التي كانت في انتظاري، واعترف أن هذا المشهد كان يستحق التوثيق، ورغم مرور أكثر من عشر سنوات على هذه الزيارة، إلا أن صورة هذا الرجل البائس مازالت في مخيلتي، ومازلت في شوق إلى معرفة مصير أحفاده.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).