لا للقلق في سلطنة عمان

07 سبتمبر 2022
07 سبتمبر 2022

توارد إلى ذهني العنوان أعلاه عندما كنت أتابع القلق العالمي متعدد المصادر، والذي ترتفع وتيرته بصورة مخيفة، وبالذات القلق على مستقبل الغذاء بسبب مجموعة تحديات كبيرة، أبرزها: ارتفاع موجة الحر، وارتفاع أسعار النفط والغاز بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وتقارير عالمية -اطّلعت عليها- تحذر من حروب مياه قادمة، وجفاف أنهار أوروبا والصين وأمريكا، وذوبان أنهار جليدية في سويسرا بعد ارتفاع كبير بدرجات الحرارة، وما نشاهده من صور صادمة تظهر تحول مساحات شاسعة من الأخضر إلى البني.. إلخ، بينما في بلادنا تساقط الأمطار الموسمية وغير الموسمية، وتتفجر أراضيها بالمياه الجوفية، وتنساب المياه من بطون جبالها على هيئة قطرات لتلتقي في مجرى يصب في عين ماء متعددة المصادر المائية، كعين ماء عبرون في وادي غدون بمنطقة عيون بولاية ثمريت.

وقد زرت هذه العين مؤخرا لأول مرة، ووقفت مذهولا لمشهد قطرات الماء تنساب من الجبال لتغذي العين في مشهد رهيب يدعوك للتسبيح للخالق، ويزيدك خشوعا موقع العين في آخر أطراف الوادي الطويل، وقد انتصبت في مكان مرتفع، يحتضنها كهف، ويلاصقها كهف آخر يستخدم لقضاء أفضل الأوقات فيه، وهذه العين في ذاكرة شيوخ وأحفاد هذه المنطقة هي من عمر الزمن لهذا الأرض، وقد وُجدت لخدمة الكائنات العاقلة وغير العاقلة، والوصول إليها يحتاج لسيارة الدفع الرباعي، ما عدا قرابة كيلومتر سيرا على الأقدام لعدم جاهزية الطريق الترابي بسبب الأنواء المناخية.

وهذا المشهد له نسخ متعددة في أمكنة كثيرة في محافظة ظفار، وكل نسخة منها لها هيبتها وخصوصيتها، كالجبل المائي في حاسك الذي يتقطر منه الماء يوميا وعلى مدار العام، لذلك سُمي «ناطف» ودائما يكون مصيره البحر، وقد أصبح مقصدا سياحيا لذاته، فكيف لو وظّفه الإنسان لخدمة الزراعة والسياحة؟ وهذا البُعد الاستثنائي للأمكنة نجده ممتدا على كل تراب بلادنا، وتعبّر عنه مختلف الصور الأخرى، كالأفلاج والعيون والشلالات الدائمة. تأملوا وجود «630» عين ماء في ظفار لوحدها متوزعة بين كل بيئاتها المختلفة!

بلادنا في كل أجزاء ترابها مباركة، وناطقة بها منذ الوهلة الأولى، وما تحطمه منطقة النجد الزراعية من إنجازات في مجال أمننا الغذائي بين الفينة والأخرى، يجعل بلادنا في حالة استثنائية من القلق على غذائها، لكن هذا مرتبط بالعمل المخطط، وبآليات وميكانيزمات حكومية غير اعتيادية، تكون مركزة على إحداث نقلة كبرى في زراعة النجد التي تقدر مساحتها الصالحة للزراعة بـ40 ألف كيلومتر مربع.

وقد جاءت الأمطار الغزيرة الأخيرة، وتلكم المتكررة سنويا، لتثير قضية المياه من ناحيتين، الأولى: توفرها وتعدد مصادرها، والثانية: تخزينها عوضا من ذهاب كميات ضخمة منها للبحر يوميا وعلى مدار العام ومنذ عدة عقود، وهذا المشهد لم يعد مقبولا الاستمرار فيه في ضوء ما أشرنا إليه في المقدمة، وفي ضوء حاجة نهضتنا الزراعية لها، وهي تضع قضية الغذاء في بلادنا بين مخاطرها الخارجية، وتحدياتها الداخلية.

شريطة أن تحكمها رؤية المصلحة الوطنية للنهضة الزراعية كغاية وطموح، بصرف النظر عن تلكم الأزمات، فكيف إذا ما تقاطعت معها؟ عندئذ تعجل باستحقاقات أزمنتها دون تردد، وبثقة الجغرافيا وخيراتها المائية المرئية وغير المرئية، وتجعل من مؤسسات الدولة كلها تصب تركيزها الفكري والتخطيطي والمالي في التعجيل بهذه النهضة، فهناك الآن مؤشرات واضحة على طبيعة الخطر القادم من مجاعات وحروب.. ولدينا كذلك مشهد تاريخي لموقف الدول الكبرى في الأزمات، فلن ينسى قرصنتها دواء وغذاء الدول الفقيرة والنامية في عرض البحار في أزمتي كورونا وتوقف سلاسل توريدات الغذاء من جراء الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر، وهذا المشهد سيتكرر -لا محالة- وقد تندلع من أجله الحروب في البحار سواء استمرت الحرب على كييف أم انتهت.

فلم تعد البحار والممرات المائية آمنة، ولا تنعقد الرهانات عليها مهما كانت الأسباب، فالدول التي تشتري الأراضي الزراعية في الخارج، وتقوم بزراعتها من أجل أمنها الغذائي قد أصبحت مهددة بالقرصنة في الأزمات، أو بفرض رسوم على تصديرها، أو بمنع تصديرها، فالدول الحاضنة لها سترى أنها أولى بها دون غيرها، وقد تلجأ لتأميمها، ومهما قدمت من ضمانات فليست مقدسة وقت الأزمات، وفي زمن المجاعات يصبح كل شيء مباحا.

ولنا نموذج حديث يمكن تقديمه هنا لترسيخ قناعة المباحات في زمن الجوع، فكلنا نعلم ما تمر به بريطانيا الآن من أزمات اقتصادية ومالية خانقة، لها تأثير خطير على معيشة البريطانيين، حيث دعا رئيس شرطة لندن أفراد الشرطة إلى إعمال الحكمة مع المتورطين في سرقة المواد الغذائية بسبب عجزهم عن شرائها، وموقف المسؤول البريطاني يذكرنا بموقف الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في عام الرمادة، عندما أوقف حد السرقة، لأن شروط تنفيذ العقوبة لم تتوفر.

ومستقبل غذائنا في أغلبه نجده في منطقة النجد، فكل ما يزرعه المواطنون فيها يثمر ويؤتي أكله بجودة عالية، ويتم تحطيم الأسعار به، مثالنا هنا نقدمه، نجاح النجد مؤخرا في زراعة كل أنواع أشجار التمور العمانية المشهورة، مثل الخلاص والنغال والخنيزي والبرحي والصقعي والفرض والهلالي ونبوت سيف والمجدول والبونارنجه، وأصبح يُباع الآن في المحلات والمراكز التجارية على مستوى البلاد، وتبلغ إنتاجية التمور الآن أكثر من ألف طن، وهي في زيادة سنوية.

ويأتي هذا النجاح -الكمي والنوعي- في الوقت الذي حققت فيه منطقة النجد الاكتفاء الذاتي من الكثير من المنتجات الزراعية في مواسمها، ودخل إنتاج الحبوب كالقمح منذ موسم 2020/ 2021 مع وجود استراتيجية حكومية لاستقبال كميات محدودة من القمح سنويا، فكيف نعزز الآن مسيرة النجد الزراعية الناجحة بامتياز في ظل ما يواجه العالم من تحديات كبرى مع الغذاء؟ ينبغي تسريع الجهود المبذولة في مجال الأمن الغذائي، وإيجاد الحلول للتحديات الزراعية، وقد زرنا النجد عدة مرات، ويمكن أن نحددها في النقاط التالية:

- رفع مستوى الطموح من جعل بلادنا مركزا إقليميا للغذاء إلى مركز عالمي، والإسراع في إقامته، وفتح فروع له في المحافظات الزراعية، فما تمتلكه بلادنا من موقع جغرافي، وموانئ عالمية مطلة على بحار عالمية، وبعيدة عن مناطق التوترات والحروب، وتربط دول وقارات العالم، ويعد المركز العالمي للغذاء من أهم الأولويات للتنمية العمانية الشاملة، يؤهلها للقيام بهذا الدور، وستتمكن من خلاله من استيعاب كل الإنتاج الزراعي المحلي، والإقليمي كاليمن الشقيق المجاورة، وكذلك من دول زراعية أخرى، ويوفر فرص عمل كثيرة، كما ستكون ذات صدقية ومصداقية للوفاء بالتزاماتها للدول الأخرى في كل الأوقات.

- تعزيز استثمارات جهاز الاستثمار العماني في منطقة النجد، والحاجة العاجلة الآن للاستثمار في صناعة المدخلات الزراعية وخاصة الأسمدة الكيماوية المفردة والمركبة التي تُستورد بأسعار مضاعفة من الخارج، وقد أقدمت بعض دول الجوار على هذا النوع من الاستثمارات، مما أحدثت الفارق السعري الملموس في الأسمدة ومن ثم انعكاسها الإيجابي على الزراعة فيها، وكذلك الاستثمار في مصانع للصناعات التحويلية القائمة على المنتجات الزراعية في منطقة النجد حتى لو بشراكات استراتيجية خليجية.

- تحويل النجد إلى منطقة زراعية خالصة، وإقامة وسائل دعم لوجستية متعددة كبنك زراعي يقدم قروضا ميسرة وطويلة الأجل.

- إقامة سدود لتجميع مياه الشلالات والعيون عوضا من جعلها تذهب للبحر مدار العام، فمثلا هناك 630 عين ماء دائمة الجريان لا يُستغل منها سوى أربع عيون فقط.

- توسيع استراتيجية قبول كل كميات إنتاج القمح عوضا عن كميات محددة.

- تخفيض فاتورة الكهرباء المرتفعة وتوفير الأدوية والمبيدات الحشرية بالكمية اللازمة.

- استصدار قوانين مشددة تحافظ على المزارع في سهل صلالة التي تتميز بزراعة أشجار النارجيل والفافاي والموز لوقف جنوح تغيير استعمالات الأراضي، وقد تحول فعلا بعضها إلى سكنية وتجارية، فهي كانت مع البحر مصدر الغذاء في زمن المجاعات، وهي في أسوأ الاحتمالات -لا قدّر الله- الخيار الآمن، والتشديد القانوني ليس على بقاء استعمال الأراضي الزراعية، وإنما كذلك محاسبة كل حالة تقصير لأشجار النارجيل تحديدا التي تشهد بدورها إهمالا متعمدا لنجاح مخطط التغيير.

وكما هو معروف فإن النارجيل لا يمكن زراعتها في مناطق لا تتوافر على الظروف البيئية والمناخية الاستوائية وشبه الاستوائية ذات الجو المعتدل والرطب، من هنا تمكن الأهمية الوطنية للحفاظ على مزارع سهل صلالة، وحماية أشجارها السيادية «النارجيل، الموز، والفافاي» والتي استمرارية وجودها تعطي لبلادنا كذلك خصوصية جغرافية في إطار الجغرافيا الإقليمية.

ونخرج مما تقدم، أن بلادنا تتربع على قمة الاطمئنان من أية حقبة مجاعة مقبلة، لكن هذا يتوقف على ما قد نعمل داخل لحظتنا الزمنية الراهنة، وقد أوضحنا بعض مساراتها، وحتى لم يكن هناك أزمة مجاعة تهدد العالم، فإن النهضة الزراعية قد أصبحت ضمن الغايات الاستراتيجية لبلادنا، فهي ستكون نقطة تحول لتنويع مصادر الدخل من جهة، وإيجاد فرص عمل كثيرة للباحثين عن عمل من جهة ثانية، ويمكن من خلالها تصحيح الكثير من الاختلالات الاجتماعية الناجمة عن تحولات مالية غير مسبوقة، من هنا، تلتقي مجموعة مصالح كبرى في القطاع الزراعي لوحده، ومنها نبني ثقتنا في إمكانية تجاوز البلاد التحديات المخيفة التي تهدد العالم في مجال الغذاء.