لا تاريخ بدون وثائق

18 مايو 2024
18 مايو 2024

تابعت منذ عدة أشهر (٢١ يناير ٢٠٢٤)، عندما تفضل صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق سلطان عمان بوضع حجر الأساس للمجمع الثقافي بمرتفعات مطار مسقط، وقد نُشرت تفصيلات كثيرة عن هذا المشروع الكبير الذي تبلغ مساحته الإجمالية 400 ألف متر مربع، وبتكلفة مالية قدرها 147.800 مليون ريال عماني، وقد تم تخطيط المشروع ليشمل مبنى هيئة الوثائق والمحفوظات والمكتبة الوطنية والمسرح الوطني ودار سينما وقاعات للفن التشكيلي ومكتبة للأطفال، فضلًا عن خدمات أخرى كالمقاهي الثقافية والمطاعم وحديقة عامة، وبهذا يكون هذا المشروع أكبر مجمع ثقافي في منطقتنا العربية، وهو يعد رسالةً من جلالة السلطان توضح بجلاء موقع الثقافة في برامج التنمية، باعتبارها البيئة الأساسية لكل الأعمال الكبيرة، وبهذا تكون سلطنة عمان في طليعة الدول التي تُعنى ليس بالوثائق فقط، وإنما بكل الأنشطة الثقافية بحكم أن عمان دولة ضاربة في عمق التاريخ.

كثيرًا ما ينصح أساتذة التاريخ طلابهم بضرورة الرجوع إلى الوثائق، ومفهوم الوثائق مفهوم متسع يمتد من الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول، وصولًا إلى كافة الأوراق الرسمية التي تنتجها المؤسسات الحكومية والخاصة، كما تندرج المذكرات الشخصية التي يكتبها المعاصرون للأحداث من بين الوثائق، إضافة إلى شهادات المعاصرين الذين يلجأ إليهم الباحثون الذين يكتبون أبحاثهم في التاريخ المعاصر، سواء أكانت تلك الشهادات من شخص تولى المسؤولية أو كان مجرد شاهد على تجربة عايشها بنفسه من قبيل القضايا السياسية والاجتماعية التي وقعت في المجتمع الذي عاش فيه، وسواء أكانت تلك الشهادات كتبها أصحابها بأنفسهم أو حصل عليها الباحث بطريق المشافهة، جميعها تعد من الوثائق التي لا يعتد بها كثيرًا، إلا إذا أخضعها الدارسون للتحقيق والتحليل والمقارنة والنقد، ولا يجوز أن تؤخذ تلك الشهادات على أنها حقائق مجردة.

الباحثون في مجال التاريخ الحديث والمعاصر في أوطاننا العربية يواجهون صعوبات مضنية في سبيل الحصول على الوثائق من بلادهم، ففي معظم الأقطار العربية قد شُيدت أرشيفات وطنية بهدف الحفاظ على الذاكرة الجمعية للمجتمع، إلا أن معظم هذه الأرشيفات تضع قيودًا صارمة على الاطلاع، لدرجة أن بعض هذه الدول قد اعتبرت الوثائق في مجملها قضية أمن قومي، وهو ما يحول دون الكتابة الأكاديمية وفي الغالب يلجأ الباحثون إلى الأرشيفات الأجنبية التي تعتبر الوثائق وفقًا لقوانينها حقًا أصيلًا من حقوق المواطنة، لا يجوز منع الاطلاع عليها إلا لأسباب تتعلق بالمصالح العليا للدولة، كالمعاهدات التي تتضمن بنودًا سرية، حتى هذه الوثائق يتم حجبها لفترات زمنية ما بين عشرة إلى ثلاثين عامًا، وفي أحيان قليلة تمتد إلى مائة عام بناء على رغبة الجهة المنتجة للوثيقة، من قبيل وزارات الخارجية أو الداخلية أو أية مؤسسة سيادية أخرى.

في بعض أقطارنا العربية توضع قيود صارمة دون النظر إلى السياقات التاريخية التي كُتبت فيها الوثائق، ولا أجد حرجًا في أن أقول بأن دولة كمصر لا تتيح الاطلاع على وثائق حرب السويس ١٩٥٦، وحرب ١٩٦٧، وحرب الاستنزاف ما بين ١٩٦٧ حتى ١٩٧٠، وصولًا إلى حرب أكتوبر ١٩٧٣، فجميعها لا تزال مودعة في الجهات المنتجة لهذه الوثائق، رغم أن إسرائيل قد أفرجت عن كل وثائقها خلال تلك الفترة، بل وأتاحت الكثير منها على موقع الأرشيف الإسرائيلي، وعلى الباحث في الصراع العربي الإسرائيلي أن يرجع إلى أرشيفات الدول الأجنبية بما فيها الأرشيف الإسرائيلي؛ لكي يطلع على الوثائق، وهي مشكلة يعاني منها الباحثون في هذا المجال، والقضية هنا غاية في الخطورة، حينما تُحجب وثائق حرب السويس ١٩٥٦، بينما تتاح الوثائق الإنجليزية والفرنسية والإسرائيلية في قضية خطيرة كانت الدول الثلاث طرفًا مباشرًا فيها، فماذا ننتظر من الباحثين وهم يستقون معلوماتهم التاريخية من أرشيفات هذه الدول؟

منذ بدايات القرن الثامن عشر وحتى ستينات القرن الماضي وما بعدها، لم تكن أقطارنا العربية معنية بالوثائق التاريخية، بحكم أن معظمها كانت تحت الاحتلال، ولم تكن قد ظهرت بعد ثقافة الحفاظ على الذاكرة الوطنية التي عُنيت بها الدول الأوروبية كإنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي شيدت لدور الوثائق مؤسسات تُعنى بجمع الوثائق وتصنيفها والحفاظ عليها، وهو ما جعل هذه الدول مصدرًا رئيسًا للوثائق، لذا يلجأ الباحثون العرب إلى هذه الأرشيفات للحصول على معلومات تاريخية عن أوطانهم.

لا أعرف تحديدًا ما يحدث في الأرشيفات العربية فيما يتعلق بحق المواطن في الاطلاع على الوثائق، رغم أنني أعلم سهولة الحصول على الوثائق من الأرشيفات الأوروبية، وهي المهمة الأساسية للأرشيف الوطني، وخصوصًا الأرشيف البريطاني الذي يعد أحد المصادر المهمة للدخل القومي البريطاني بحكم احتفاظه بكل الوثائق المتعلقة بالدول التي كان يحتلها، لهذا يلجأ إليه الباحثون من كل دول العالم، حيث يقصده الباحثون العرب ومراكز البحوث التاريخية والأرشيفات العربية، جميعهم يتسابقون في الحصول على معلومات عن تاريخ أوطانهم، سواء فيما كان يكتبه المقيمون والمعتمدون والسفراء البريطانيون إلى بلدهم، أو فيما كان يكتبه الرحالون عن هذه الأوطان، لدرجة أن بإمكان كل باحث معرفة عدد سكان كل قطر عربي، أو حجم التجارة الداخلية أو الخارجية، أو مصادر الدخل القومي، وكل التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالعادات والتقاليد، والحروب بين القبائل، وقضايا الحدود بين الدول، وجميعها تفاصيل كثيرة يعتمد عليها المؤرخون العرب في غيبة الوثائق العربية.

مهمة الباحث في التاريخ ليست مجرد جمع الوثائق وإعادة نشرها أو إعادة صياغتها وترجمتها، أو الاعتماد عليها بشكل أساسي، بل المهمة الأكبر للباحثين هي البحث عن مصادر أخرى، من قبيل ما احتفظ به البعض من أوراق أو مخطوطات أو كتب أو معلومات احتفظ بها الأجداد، وهنا تكمن أهمية التاريخ الشفاهي، وهو أحد المصادر الأساسية التي يرجع إليها الباحثون في محاولة للوصول إلى الحقيقة، التي يصعب الوصول إليها بحكم أن الحقيقة التاريخية أمر صعب المنال، وهنا يأتي دور الباحث الفطن، الذي يستطيع بمهارة أن يدرك القصور فيما ورد من معلومات في هذه الوثائق، لذا تكمن أهمية الكتابات التاريخية ليس في الاعتماد على الوثائق فقط، وإنما في مهارة الباحث ومقدرته على التحقيق والنقد والتحليل والمقارنة، وفي جميع الحالات فالحقيقة التاريخية تظل نسبية.

إن ما يضاعف من سعادتي خلال العقود الأخيرة هو عناية دولنا العربية بأرشيفاتها الوطنية، وخصوصًا بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات التي جعلت من التعامل مع الوثائق وتصنيفها وأرشفتها أمرًا سهلًا، لكن تبقى المهمة الأصعب وهي حماية هذه الوثائق وحفظها في بيئة صحية بعيدًا عن التلوث والرطوبة، فضلا عن مهمة أخرى لا تقل صعوبة وهي ترميم هذه الوثائق وخصوصًا القديم منها، فلم تعد عملية الترميم مجرد عملية بدائية، وإنما أصبح الترميم بمثابة مستشفى متكامل ابتداء من الترميم اليدوي والترميم الإلكتروني ونوعية الورق المستخدم في الترميم واستخدام التقنيات الحديثة كما هو معمول به في الدول الأوروبية، إضافة إلى التدريب المستدام لكل العاملين في الأرشيف.

لذا فإنني على درجة كبيرة من التفاؤل بكل ما يحدث من تطوير وتحديث في الأرشيفات العربية.