لا أمل لإسرائيل إلا في الفلسطينيين

04 فبراير 2023
04 فبراير 2023

ترجمة أحمد شافعي -

ليس المشتبه المعهود. يشتهر بفوزه بجائزة نوبل في الاقتصاد، وبتأليفه الكتاب الرائج عالميا بعنوان "التفكير بسرعة وببطء"، أكثر من اشتهاره بالتظاهر أو حمل اللافتات. لكنني تحدثت هذا الأسبوع مع دانيال كانمان، الذي يبلغ التاسعة والثمانين من العمر عما قريب، وهالتني في صوته نبرة اليأس.

قال لي الأكاديمي إسرائيلي المولد "إنه الرعب الخالص. هذا هو أسوأ تهديد لإسرائيل منذ عام 1948" وذلك هو عام تأسيس إسرائيل، وقال إنه أسوأ حتى من حرب يوم كيبور سنة 1973 حينما بدا أن بقاء إسرائيل نفسه على المحك، فالضرر هذه المرة "قد يكون مستحيل الإصلاح".

لم يكن دانيال كانمان يتكلم عن جيش أجنبي يحتشد على حدود البلد، أو قنبلة نووية إيرانية أو تزايد احتمالات انتفاضة فلسطينية ثالثة (وإن كنا سنصل إلى ذلك)، وإنما كان يتكلم عن شيء تفعله إسرائيل في نفسها: هو ما يطلق عليه رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو برقة خطته لـ"إصلاح القضاء"، وما يصفه آخرون ببقر أحشاء المحاكم الإسرائيلية، ومنح الحكومة سلطة مطلقة.

في هذا الأسبوع، وجَّه وزير الخارجية الأمريكية الزائر أنطوني بلينكن نسخة دبلوماسية ملطفة من التحذير نفسه، ملقنا نتانياهو درسا مدنيا في أهمية استقلال القضاء وسيادة القانون. في الوقت نفسه، وقَّع مئات الأعلام، ومنهم دانيال كانمان، "رسالة طارئة" تدين التغييرات المقترحة، في حين أعلن رئيس إحدى كبرى شركات التكنولوجيا في إسرائيل رحيله عن البلد على سبيل الاحتجاج.

ينصب اعتراض هؤلاء على خطة من شأنها أن تحد سلطة المحكمة العليا على إلغاء قرارات الساسة، وتتيح لنتانياهو أو أي رئيس وزراء في المستقبل أن يتجاوز حكم محكمة بأغلبية برلمانية لا أكثر، وتجعل تعيين القضاة اختيارا من الساسة. ووفقا للوضع الراهن، تمثل المحكمة العليا العائق الأساسي الوحيد لسلطة الحكومة في إسرائيل، فليس للبلد دستور مكتوب، أو غرفة برلمانية ثانية. وفي حال بقر أحشاء المحكمة، سوف يتيح ذلك لنتانياهو حكما غير مقيد بقيد، وينجيه من مأزقه إذ يواجه محاكمة واحتمالا بالسجن في اتهامات بالفساد. يقول كانمان إن إسرائيل سوف تنضم إلى ناد من بين أعضائه فكتور أوربان في المجر: "ستكون إسرائيل بلد ديمقراطية زائفة".

وبالطبع سيقول كثيرون إن إسرائيل ديمقراطية زائفة منذ قرابة 56 عاما، أي منذ أصبحت محتلا عسكريا للأراضي الفلسطينية التي ظفرت بها في حرب 1967. وبالنسبة لهؤلاء قد تبدو الكآبة الحالية التي تعتري علماء إسرائيل ورجال أعمالها العاملين في مجال التكنولوجيا بشيرا سعيدا بقرب انهيار الصرح الإسرائيلي كله وتداعيه.

لكن ذلك يعجز عن إدراك حقيقة واحدة، هي أن الخاسرين من جراء التغييرات الجارية سوف يشملون ولا شك اليهود الإسرائيليين المعارضين لكنهم سوف يشملون أيضا وحتما الفلسطينيين بالمعاناة، وبالمعاناة المباشرة،.

وهذا صحيح من أوجه بعضها واضح وبعضها غير ذلك. ولنبدأ بالواضح. تمثل المحكمة العليا عائقا لطغيان الأغلبية، وبذلك فقد درجت على حماية حقوق الأقليات ومنهم 20% من مواطني إسرائيل من عرب فلسطين. ومع أن سجل القضاء بعيد كل البعد عن الكمال، ففي حال مضي هذه الإصلاحات قدما وتقلص المحكمة إلى كائنات منزوعة الأنياب تابعة للحكومة، فسوف تزداد الأمور سوءا على سوء.

وإليكم مثالا واحدا: يسعى شركاء ائتلاف نتانياهو اليميني الوطني المتطرف إلى منع أحزاب إسرائيل العربية من خوض الانتخابات والوصول إلى الكينيست. وفي حال انتزاع سلطات المحكمة العليا، فلن يبقى من شيء أو أحد ليوقفهم عن ذلك.

لكن هذا الأمر له أثر أوسع. ففي مؤتمر صحفي بالقدس، أكد بلينكن دعم واشنطن الراسخ لحل الدولتين: أي الأمل في حل الصراع وانتهائه إلى إسرائيل آمنة وقائمة بجانب فلسطين مستقلة. وذلك كان الموقف المعياري للمجتمع الدولي منذ عقود. يرجع هذا إلى قرابة القرن، منذ أن اقترحت لجنة بيل للمرة الأولى التقسيم حينما كانت بريطانيا هي التي تتولى المسؤولية، وذلك سنة 1937. ويرى أنصار هذا الموقف أنه الحل الوحيد الممكن للغز الإسرائيلي الفلسطيني. وليس فيه من عيب إلا واحد: وهو أنه ميت تمام الموت.

وجربوا الحديث إلى من يقفون على الأرض وسترون أنهم يصفون لا حل الدولتين، وإنما واقع الدولة الواحدة. فالخط الأخضر بين إسرائيل كما تأسست سنة 1948 والأراضي المحتلة في ما بعد 1967 تعرض للمحو باطراد، من خلال المستوطنات، والطرق، والبنية الأساسية، بما يضمن تشابك الاثنتين تشابكا يستعصي على أي فصل في المستقبل ـ وسيكون ذلك لازما لإنشاء دولة فلسطينية ـ ويصبح عمليا من المستحيلات.

والنتيجة هي دولة واحدة فعلية تسود عليها الحكومة الإسرائيلية. في ظل هذا الوضع: فإن إزالة آخر القيود المفروضة على السلطة التنفيذية الإسرائيلية من خلال "الإصلاح القضائي" أدعى للقلق. فبجانب نتانياهو وفي صفه حلفاء وزاريون لا يخفون عزمهم على جعل حياة الفلسطينيين في واقع الدولة الواحدة أكثر استحالة. فمنهم من يعمل على زيادة قسوة الأوضاع التي يحتجز فيها السجناء الفلسطينيون لأسباب أمنية، وآخر يعمل على مصادرة مزيد من التمويلات المستحقة للسلطة الفلسطينية.

إن مستقبلا يلوح في الأفق يبدو فيه العنف المشهود خلال الأسبوع الماضي ـ حيث لقي عشرة فلسطينيين مصرعهم في جينين، وسبعة يهود وهم يغادرون معبدا في القدس، واعتقال مطلق الرصاص الفلسطيني البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما ـ قابلا للتكرار إلى ما لا نهاية له مريقا الدماء بلا كرامة.

فهل ثمة أي مخرج؟ لا أحد يتحدث عن محادثات الآن. وما من رغبة في مفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين أو مقدرة عليها، فالجانبان شديدا التباعد. والولايات المتحدة في ما يبدو تخلت عن دورها باعتبارها الوسيط المحتمل، وفي تصريح دال الأسبوع الماضي، رفض المتحدث باسم الخارجية حتى أن يستعمل كلمة "الاحتلال".

ومع ذلك، ثمة خطوة واحدة يمكن اتخاذها، وسلاح واحد لم يلجأ إليه خصوم نتانياهو تقريبا. وانظروا إلى النتائج التي جاءت بهذه الحكومة اليمينية المتشددة إلى السلطة: من حيث الأصوات، انتصرت كتلة نتانياهو بهامش ضئيل. وكانت المشكلة هي أن خصوم نتانياهو انشقوا على أنفسهم وعجزوا عن جذب المزيد من الناخبين الذين كان يمكن أن يصنعوا الفارق أي خمس المواطنين الإسرائيليين وهم العرب الفلسطينيون. لقد تجاوز إجمالي المشاركة في انتخابات نوفمبر 70% لكنه لم يتجاوز بين عرب إسرائيل 53%. ولو كان العرب صوتوا بمثل أعداد اليهود، لما كان نتانياهو قد أصبح رئيسا للوزراء.

ولعلاج ذلك ينبغي أولا إحداث تغيير كلي في الذهنية من جانب اليسار الإسرائيلي الأساسي فيصغي أخيرا إلى المطالب الفلسطينية بالمساواة داخل الخط الأخضر وإنهاء الاحتلال في ما وراءه. وقد يؤدي ذلك بدوره إلى إحداث تغيير كبير في أوساط الإسرائيليين الفلسطينيين أي اعترافا بأن مقاطعة فعلية لمؤسسات إسرائيل السياسية قد تكون منطقية حينما يلوح في الأفق طيف دولة فلسطينية منفصلة، لكنها ليست منطقية بحال الآن، فليس لها من أثر إلا تقوية العازمين على جعل حياتهم أسوأ.

يوشك نتانياهو أن يستولي على السلطة التي ستدمر الاعتزاز الإسرائيلي المتكرر بأنها البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط. قد يكون الأوان فات على الحيلولة دون ذلك، ولكن سيكون من أكبر مفارقات التاريخ أن يتبين أن الشعب الوحيد القادر على إنقاذ إسرائيل من نفسها هو الشعب الفلسطيني.

* جوناثان فريدلاند صحفي بريطاني يكتب عمودًا أسبوعيًا لصحيفة الجارديان

** عن صحيفة الجارديان