كيف نستعيد هويتنا؟
يصعب على أي إنسان قد انشغل بالثقافة والحياة العامة، وأمضى حياته كلها شغوفا بمختلف المعارف الإنسانية، ورغم ذلك لا يعرف أي المجالات كان أكثر فائدة في حياته الثقافية، وقد سئلت في مناسبات مختلفة عن أي الموضوعات التي كنت شغوفا بها؟ أيها كان أكثر فائدة، التخصص الأكاديمي (التاريخ) أو الفكر أو الفن؟ وفي كل مرة كنت أعجز عن تحديد أكثر المجالات تأثيرًا في حياتي، بل أعتقد أن معظم من ارتبطت بهم من أصدقائي وأساتذتي حتى ولو كانوا من الأكاديميين لا يدينون لفرع معين، ولا يستطيعون تحديد أي المجالات كان أكثر تأثيرا على حياتهم الثقافية والاجتماعية، وحتى الأكاديمية، بينما أعرف الكثيرين أيضا ممن صُنفوا في قوائم الشعراء أو الروائيين أو الفلاسفة، وكان لبعضهم السبق في أي من هذه المجالات، ولكن بعد هذه الخبرة الطويلة من حياتي، فمن المؤكد أن كل من حقق نجاحا مؤثرا في محيطه العربي أو الأجنبي، رساما موسيقيا مؤرخا فيلسوفا شاعرا، كل هؤلاء وضعوا في قوائم مختلفة، لعل أهم ما يميز هؤلاء جميعا أنهم نظروا للثقافة والمعرفة بكل صنوفها باعتبارها وحدة موضوعية متكاملة يصعب الفصل بينها جميعا، حينما استهوتهم المعرفة بصرف النظر عن مسمياتها، وهم في كل الأحوال لا يرون الرسم مثلا أو فنون العمارة أو مختلف الفنون البصرية إلا موضوعا واحدا، تختلف مسمياته لكن لا يختلف محتواه.
لعلنا في حاجة إلى أن تتولى إحدى مؤسساتنا الثقافية المعنية بالثقافة بالمعنى الحقيقي، العمل على إعداد دراسة من خلال استبيان يمكن تعميمه على المثقفين والشباب المبدعين في كل أنحاء العالم العربي لكي يجيبوا على سؤال واحد، لعله السؤال الأهم: هل يمكن معرفة كيف بدأ شغفكم بما أبدعتم فيه؟ وأي مجال في القراءة كان له التأثير الأكبر؟ ومتى اكتشفتم أنفسكم؟ وهل اكتشفتموها في التصوير، أو المسرح، أو السينما، أو القراءات الأدبية والفلسفية والاجتماعية؟ ما هو المجال الذي حدد مستقبلكم في كل هذه المعارف؟ ..إلخ. خلال قراءاتي ومشاهداتي لكثير من مثقفينا وفنانينا وأكاديميينا في كل العالم العربي، كثيرا ما سئلوا عن هذه الأسئلة أو غيرها من الأسئلة التي شكلت تكوينهم، وقد تبين لي بأن الغالبية منهم أجابوا بأنه لا يوجد مجال واحد، ولا فكرة واحدة، في الأدب والفن والفكر لكن كل هذه المجالات قد أخذتنا إلى عوالم فسيحة كل عالم يُسلمنا إلى العالم الآخر، وكوننا أبدعنا في جانب أو آخر إلا أن مكوننا ومخزوننا كان مصدره المعرفة بكل صنوفها، حيث تندرج تحتها كل المجالات الثقافية والفنية.
لعل الهدف من هذا المقال أنه يتناول روح التنمية الحقيقية، التي تستهدف الإنسان منذ بداية حياته المبكرة، فالطفل مثلا عند التحاقه بالمدارس الإلزامية غالبًا ما يكون موهوبًا في واحد من مجالات الإبداع، رساما، أو كاتبا،أو رياضيًا، موهوبًا لديه قدرة على استيعاب ما يقرأ، كل هذه الأمور في حاجة إلى معلم مؤهل، فضلاً عن إمكانات المدرسة من المكتبة إلى غرف الابتكارات إلى الملاعب الرياضية.
كثيرون من كبار مثقفينا في العالم العربي، وخصوصًا من جيل الآباء، لم ينخرطوا في برامج الدراسة النظامية، وانتهى الأمر ببعضهم منظرين ومفكرين وفنانين، وعند دراسة المسيرة الذاتية لحياتهم، نجدهم جميعا يشيرون إلى مكتبة قد استفادوا من معارفها، أو من شخص ما قد أخذ بيدهم لكي يرشدهم إلى هذه العوالم الساحرة، وفي عالمنا العربي هناك نماذج يصعب القياس عليها، حينما أخذتهم غواية المعرفة، نقرأ نتاجهم الفكري والأدبي والفلسفي، وكانوا جميعا بمثابة الفسائل التي أينعت وأثمرت زروعًا وثمارا.
في نهاية الرحلة التي بدأتها في قريتي الصغيرة في شمال مصر، ومنها سافرت وشاركت وأدرت مؤسسات ثقافية كبيرة، لكنني أتذكر جيدا الكثير مما اختزنته الذاكرة، وخصوصًا في المرحلة الجامعية، حينما كانت الثقافة والفن والحوار جميعهم بمثابة قضية واحدة، وكان من حظنا أن البعد الجغرافي لم يكن عائقا عن التواصل مع العاصمة (القاهرة) حينما شيدت الدولة ما سمي بالقصور الثقافية في المحافظات، أتبعتها ببيوت ثقافية في المراكز والقرى، يتولى إدارتها جميعًا جيل من أوائل خريجي الجامعات في مختلف الفنون والآداب، شريطة أن تكون لهم اهتمامات بأي من هذه المجالات، ولقد لفت نظري في الأرشيف المصري الأوراق التي كتبها جمال عبد الناصر بخط يده، مقترحا تعميم هذا المشروع على كل إنحاء مصر، وأعتقد أنه كان عائدا من رحلة إلى يوغوسلافيا، لعله قد استقى هذه الفكرة من المجتمع اليوغسلافي، أتبع كل ذلك بمشروع عملاق في كل مجالات القراءة، حيث راحت المطابع الحكومية تنتج كل يوم عشرات الكتب المؤلفة والمترجمة من كل لغات العالم، وكان النشاط المسرحي من القرية (مسرح الجرن) إلى المدينة، إلى عواصم الأقاليم، وقد شاهدت بعيني جموع الفلاحين وهم يتزاحمون على مشاهدة هذه العروض المسرحية التي كان يصعب على بعضهم فهم محتواها الفكري والفني، بينما كانت الأنشطة الجامعية التي يديرها الشباب في كل المجالات، لم أكن أراهم شبابا، كانوا رجالاً مسلحين بخبرة الكبار، كل هذه الأنشطة والبرامج في مختلف المجالات كان لها آباء كبار في المسرح والرواية والفنون التشكيلية والسينما والشعر، حتى في مختلف المجالات الأكاديمية.
كنا نتحاور مع الكبار، ولا نجد حرجا في أن نسألهم أسئلة صعبة، بل نتهمهم أحيانا باتهامات قاسية، من قبيل مهادنتهم للسلطات، وكانت دائما نظرية المؤامرة حاضرة عند الكثيرين منا، لكن كانت قلوب الآباء متسعة، والنفوس صافية، والجميع يشعر بالهم الأكبر، حينما كان الجيش المصري يخوض حروبا ضارية على الجبهة، في هذه الفترة المبكرة من حياتي رأيت طه حسين ويحيي حقي ويوسف السباعي ولويس عوض، وشاهدنا حوارات الأستاذ هيكل في مناسبات مختلفة، وعشنا أزمة مصطفى وعلي أمين مع النظام ومحنتهما الكبيرة، ورأيت القاهرة وهي تحتضن الكثير من حركات التحرر الوطني الأفريقي، ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة، والحصار الضارب على مصر من كل اتجاه، إلا إننا جميعا كان يملأنا الفخار ليس في مجال السياسة فقط، وإنما في متعة القراءة ومشاهدة مختلف صنوف الفنون، ثم جاءت حقبة السبعينيات وما أدراك ما السبعينيات، حيث عشنا أزمانا أخرى، حينما أقحمنا الدين في السياسة والحياة الاجتماعية، وظهر من بيننا من يفتي بقتل المخالفين، وكان من نتائج ذلك قتل فرج فودة والدكتور رفعت المحجوب، ومحاولة قتل نجيب محفوظ ومكرم محمد أحمد، وهي أحداث مروعة بدأت بسبق إصرار وترصد، وبدعم معنوي وربما مادي من أنصار المذاهب الدينية الضيقة، التي اخترقت معظم عالمنا الإسلامي والعربي، وتسببت في إهدار كثير من الدماء، واستطاعت حصار العقل لصالح النص الذي لم يستطيعوا فهمه، ورغم مرور كل هذه العقود الطويلة، لكننا اليوم أحوج ما نكون لاستعادة هويتنا في المدرسة والجامعة، على أن تكون الثقافة بمعناها الشامل والمتسع هي الموضوع الأهم شريطة أن يتم ذلك من خلال برامج مبتكرة بعناية، وخصوصًا للناشئة والشباب لعلنا نصلح ما أفسدناه بأيدينا.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري