كيف ستغير هذه الحرب مجتمعاتنا؟
بعد مرور أكثر من شهر على المجازر الغاشمة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في أرض غزة، في ظلِ مراوحةِ المجتمع الدولي عند الأدوات الدبلوماسية ذاتها التي يستعملها، ودون أفق واضح لإيقاف آلة الحرب، لا نملك إلا أن نترحم على أرواحِ الشهداء، ونسأل الله أن يلطف بهم، ويخفف عنهم، ويعم برحمته عليهم، ويجعل الفرج قريبًا مبينًا. في الواقع فإن هذه الحرب في سياقها الزماني والمكاني لهي على المستوى الاستراتيجي تغير كافة القواعد، فهي حرب غير متكافئة، ومباغتاتها وسيناريوهاتها غير متوقعة. وهي في الآن ذاته نقطة تاريخية يتوقف وسيتوقف عندها العالم كثيرًا كونها ستغير الكثير من المفاهيم والسرديات، والمؤكد أن نسق العالم بعدها - على الأقل من ناحية المفاهيم - لن يكون كما كان قبلها. هي إذن حرب (مواقف) وحرب (اصطفافات)، كما هي في الآن ذاته حرب (سرديات) وحرب (آلة إعلامية مهولة) تنتصر لسردية وتحاول طمس سردية أخرى. وهذه السرديات لا تحتاج اليوم إلى سنوات عديدة لكشف بنائها وتركيبها وزيفها من صدقها، بقدر حاجتها إلى بعض ساعات أو دقائق لدحضها وتعريتها أو ترويجها ومحاولة تعميمها. تأتي هذه الحرب ولا تديرها وسائل الإعلام التقليدية ويتلقاها المتسمرون خلف الشاشات أو أوراق الصحف أو الإذاعات، هي تأتي من الميدان لحظة بلحظة، بمآسيها، بوحشيتها، بتجسيد أقدارها، وبصمود وجلد الفلسطينيين فيها.
وبقدر ما تدفع هذه الحرب بوحشيتها إلى مراجعات سياسية كبرى، سواء في منطق الدعم والتحالفات والاصطفافات ومواقف الشعوب ودورها في تكوين الخط السياسي لاتجاهات حكوماتها، بقدر ما تعيد التفكير في مفردة وأركان السلام مع «إسرائيل»، لكنها على الجانب الآخر تعيد بناء الذهنية الاجتماعية العربية تجاه الموقف من القضية الفلسطينية من ناحية، وتجاه المواقف السياسية من ناحية أخرى، فهي إلى جانب كونها أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة رغم محاولات وضعها على الهامش، وتسطيحها؛ سيكون فعلها في المجتمعات العربية التالي:
- الدفع نحو مجتمعات أكثر بحثًا عن الحقيقة: يعود طيفٌ واسع من الأفراد اليوم في المجتمعات العربية وخصوصًا في فئة الشباب إلى التاريخ بعين ناقدة، يبحثون عن أصل القضية ومساراتها التاريخية، يكشفون عن المراحل التي مرت بها، والمنعطفات التي عقدتها، ليكونوا أكثر فهمًا، وأكثر قوة في مواجهة الزيف ومحاولة تشويه الحقائق. هم يتحصنون اليوم بسلاح المعرفة، والمحاججة. ويصبحون يومًا بعد آخر أكثر حملًا للحقيقة وتجسيدًا لها.
- ترسيخ عقلية ناقدة لهيمنة الصورة الإعلامية: لا يمكن اليوم الاستهانة بتفكيك الصورة الإعلامية التي يشتغل عليها المتلقون لها في بعض دقائق، سواء كانت في تزييف الواقعة، أو في توجيه الرأي العالم بمفردات ومفاهيم معينة، أو في محاولة قلب الحقائق استنادًا إلى قوة وانتشار وسطوة آلة إعلامية بعينها. تنبرئ اليوم مجتمعاتنا على حد سواء لتفنيد منتجات تلك الهيمنة وإعادة بنائها. وهو سلاح آخر لليوم والغد، وأداة تعبر عن حيوية هذه المجتمعات في مواجهة قضاياها المتعددة.
- مجتمعات تصنع سرديتها، وتكون أكثر قدرة واتساقًا لترويج تلك السردية: مكنت وسائل التواصل الاجتماعي المجتمعات العربية «المتضامنة» من صنع سرديتها الخاصة حيال الأوضاع الجارية، وظفت من خلال كل الرمزيات الممكنة والمبتكرة، واستخدمت الميز والمساحات التي تتيحها هذه المواقع لجعل الجميع في قلب الحدث، والأهم لحشد الجميع لترويج سردية المقاومة، والمقاومة هنا بمفهومها الواسع (العقدي والتاريخي والسياسي والشعبي). بإمكانك أن ترى اليوم انتشارًا موسعًا لقنوات على منصة «Instagram» تنقل لحظة بلحظة ما يحدث، عوضًا عن حراك الساحات والميادين، ومقاومة الصورة والبودكاست والكاريكاتير وسواها. كلها حوامل للسردية الخاصة بهذه المجتمعات، وهو ما أبان اليوم عن انتشار تلك السردية، والحكي بها في دول ومجتمعات ما زالت حكوماتها تقف إلى الجانب الآخر، وليس أدل من ذلك سوى سردية الشهداء وخصوصًا من الأطفال، والتي أصبحت أيقونة في الجامعات، وأمام أشهر المؤسسات الإعلامية، والساحات الأشهر عالميًا. لا شك أن قوة الاتصال وشبكاته أسهمت في زيادة مساحة القناعة العالمية بحقيقة وصدقية هذه السردية.
- مجتمعات تبتكر أدواتها في المقاومة والضغط: وهنا يتجسد في البحث الدقيق عن المؤسسات الداعمة للكيان المحتل، سواء اقتصاديًا أو تجاريًا أو علميًا وثقافيًا. والتقصي خلف أجندتها، وابتكار أدوات الضغط في مواجهة منتجات كل منها. وتشكيل خط واضح للالتزام بالـ «المقاطعة الاقتصادية»، كإحدى الأدوات الموجهة للضغط. تشير الأبحاث التي أجرتها كلية ميلبورن للأعمال حول حملات المقاطعة الاقتصادية والتجارية التي جرت على بعض الشركات منذ بداية التسعينات في القرن الفائت بأن «المقاطعة الجيوسياسية أصبحت أكثر شيوعًا، ويبدو من المرجح أن يستمر هذا الاتجاه مع تزايد عولمة العالم». وفي الجانب المقابل فإن المقاطعة لا تكون في بُعدها الاقتصادي اللحظي أو تأثيرها التجاري المحدود في وقته. بل تشير باولا كورتني المتخصصة في علوم رضا العملاء «إن الذكريات السيئة تدوم لفترة أطول من الذكريات الجيدة فعندما شهدت إحدى شركات الاتصالات نتائج سيئة في ولاء العملاء، كشفت المقابلات معهم أن ذلك ينبع من ممارسة فوترة مثيرة للجدل كانت الشركة قد ألغتها قبل 10 سنوات».
عوضًا عن ذلك سنكون أمام مجتمعات أكثر مساءلة للمواقف السياسية، وهي في الآن ذاته مجتمعات تتفاعل مع المعرفة والمفاهيم نقدًا، وتفكيكًا، وإعادة بناء. نتذكر جميعًا الدراسة الشهيرة التي أصدرها «Pew Research Center» بعد عام من حرب العراق، حول وجهات نظر الرأي العام تجاه أمريكا وداعميها في أوروبا ما بعد الحرب، إن ثمة مشهدا اليوم يبدو أكثر تعقيدًا مما كان عليه الوضع آنذاك. هذا المشهد تغذيه أحداث اللحظة، وتوضحه أكثر حالة التفاعلية السريعة التي تجري مع هذه الأحداث، مما يشيئ أننا أمام تغير واسع لخريطة المفاهيم، والمواقف، والقناعات، سينعكس على كافة تركيب هذه المجتمعات من أطفالها، وشيوخها، وشبابها، والفاعلين فيها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان