كيف تُغير مسز ميزل سردية المرأة المقاومة
ثمة سردية لا تتغير تقريبا (رغم تنويعاتها العديدة) عند تناول الشخصيات النسائية في السياق التاريخي عبر الأفلام والمسلسلات. لنأخذ على سبيل المثال شخصية آريا ستارك في مسلسل صراع العروش أو لعبة العروش (كما يُترجم العنوان أحيانا للعربية). منذ سنٍ مبكرة نرى آريا تنفر من دور «الليدي»، فهي لا تملك أي اهتمام أو موهبة في التطريز، تتأفف من لبس الفساتين، والسلوك المحتشم اللطيف الذي يجب أن تتحلى به السيدات. وعلى النقيض نراها تبرع في الرماية، واستخدام السلاح. إنها تُفضل المغامرة والبقاء في الخارج، عوضا عن النشاطات النسائية داخل البيت. وبماذا يُكافئ تمردها هذا؟ بأن تصبح في النهاية الشخص الذي يُنقذ العالم.
سيدة القرن الماضي المقاومة وإن تغيرت قليلا بحكم تغير الظروف عن امرأة العصور الوسطى، لا تشذ كثيرا عن هذه السردية. فهي وإن لم يكن استخدام الأسلحة جزءا من اهتمامها؛ لكون المجتمع أصبح أقل عنفا بالمجمل، فإنها تُشغل نفسها بالقراءة، أو الأعمال «الجادة» الأخرى التي هي حكر على الرجال. نقول الجادة لممايزته عن الأدوار النسائية التي يُنظر إليها على أنها أقل شأنا: كالاهتمام بالمظهر، وحفلات الرقص. تسخر هذه المرأة من الدور الذي تلعبه النساء الأخريات، متمايزة عنهن. فأعلى شكل من أشكال المديح الذي يُمكن أن يُوجه إليها هو «لم أرَ امرأة هكذا من قبل!»
مسلسل The Marvelous Mrs. Maisel الذي بدأ عرضه عام 2017، وبُث الجزء الأخير منه مؤخرا، يتحدى هذه السردية ببلاغة وذكاء. تجري أحداث المسلسل في خمسينات وستينات القرن الماضي، ويحكي قصة امرأة من نيويورك تبدأ بعد طلاقها رحلتها المهنية ككوميدية. ورغم أن المسلسل لا يبنى على شخصية أو أحداث حقيقية بالكامل، إلا أنه يستلهم مواضيعه وشخصياته من صناعة الكوميديا كما كانت في تلك الحقبة. ثمة شخصيات في المسلسل مبنية على شخصيات حقيقية مثل شخصية الستاندآب كوميديان Lenny Bruce، الذي احتفظ المسلسل ليس باسمه الحقيقي فقط، بل وبعروضه كما أداها على المسرح. بالطبع، ثمة تكهنات بأن شخصية مسز ميزل مُستلهمة من الكوميدية الشهيرة Joan Rivers، وتشابهات لا يمكن إغفالها بين شخصية Sophie Lennon والكوميدية Phyllis Diller. كل ما يُمكن قوله عن هذا أن صناع هذا العمل قاموا بعمل جبار في البحث والكتابة لإعادة إحياء صناعة الكوميديا في تلك الحقبة، وجعلها مع ذلك ذات صلة بهمومنا اليوم.
على عكس الشخصيات المسطحة، شخصيات البُعد الواحد الذي تُكتب به النساء عادة، ثمة ثراء وعمق وتعقيد في شخصيات هذا العمل (رجالا ونساء طبعا). فذكاء، وخفة دم، وموهبة مسز ميزل لا تتعارض بأي شكل (ولمَ عليها أن تفعل) في كونها عاشقة للموضة، مسرفة في التزين، ومحبة للرفاه، عاطفية واندفاعية. وعلى عكس السرديات «الرخيصة» فأرفع مديح يُمكن أن يُقدم لها، لا ينبع بأي شكل من تمايزها عن غيرها من النساء بل من كونها مثالا لثرائهن وتعقيدهن. لا نقول من كونها ممثلة لهن، بل من كونها مثالا، وهذا فارق مهم يجعل عملها فنيا بامتياز، وربما سياسيا لكن بدرجة أقل، حيث لا يُثقل عليها واجب «التمثيل» بحيث تخسر نفسها، فهي -في النهاية- لا تحتكم بالضرورة للنظام الأخلاقي والسلوكي المتفق عليه، وهذا سر نكتتها. إنها لا ترى حاجة في أن تشذ إذا ما رغبت في كسر القوالب، وتغيير الأدوار، بل لديها الجرأة بأن تكون نفسها بكل ما في هذه النفس من حاجات ورغبات وطرق (غريبة أحيانا) في التعبير. إنها لا تتنازل مهما علت الصيحات المستنكرة، وهي تضعف أحيانا وتبكي أحيانا لكنها تعود بقوة.
كل شخصية في المسلسل لها عمق يسمح لك بالتعاطف معها. جول -على سبيل المثال- طليق مسز ميزل، والذي يتركها -في الحلقة الأولى- لأجل سكرتيرته، لا تتخيل أنك ستكن له سوى البغض، لكنك لاحقا ترى لم قد يحتاج رجل مثله لأن يرحل عن امرأة مثلها، تراه باعتباره إنسانا يُخطئ، يضيع، ويشعر بالذنب. ترى كيف يحتاج هو الآخر لأن يتحرر من توقعات الآخرين منه؛ ليفعل ما يريده، ترى كيف أن تجربة طليقته (وطلاقه) تغيره، لدرجة أنك تُسامحه، بل وربما حتى ترغب سرا في أن يُعالجا ما كان، ويتوصلا لصُلح يعيدهما معا.
لا يُصنف المسلسل شخصياته إلى شريرة وخيرة، إلى مسيئة ومتلقية للإساءة، بل يعكس التجربة الإنسانية بكل ما فيها من هذا وذاك، ويُبين كيف أن الإساءات تتولد على نحو طبيعي وعضوي كنتيجة للتفاعلات البشرية.
رغم أن عنوان المقال قد يوحي بأن هذه القصة ما هي إلا قصة أخرى حول قضية تمكين المرأة، إلا أن رسالة «التمكين» هذه لا تظهر في الحقيقة على نحو صارخ لحد قد يُنفر المشاهد. إنها قصة تُحكى على نحو جيد، مليئة بالفكاهة والالتقاطات الذكية. صُناع العمل أنتجوا من قبل عملا بنفس الأهمية ألا وهو Gilmore Girls، وهم يُكملون مسيرتهم الحافلة هنا بهذا العمل الذي قد أعده شخصيا أحد مسلسلاتي المفضلة على الإطلاق.