كيف تؤثر الثقافة ومنظومة القيم في ما نشعر به؟
تقترح وجودية سارتر أن «الوجود يسبق الماهية»، وهو ما يقترحه عُلماء الأحياء والأعصاب أيضًا. بمعنى أن الوعي - أيا يكن ما نقصده بالوعي - أتى في مرحلة متقدمة من الوجود. إنه على الأغلب شيء لا تمتلكه إلا الكائنات التي لها جهاز عصبي متقدم. سبق ظهور الوعي، ظهور المشاعر باعتبارها الشيء الذي يُعطي تقريرا لحظيا للعمليات التي تجري في جسم الإنسان. إنها تخبرك أنك جائع، أنك بردان. ولأن المشاعر أكثر بدائية، ولأنها تطورت قبل تطور الوعي فمن المعقول أن نستخلص بأننا مدفوعون بالمشاعر أولاً، وأن قوة المشاعر تفوق العقلانية أو حتى منظومة الأخلاق التي نعتمدها.
إننا نعرف أيضا أن الثقافة ونمط الحياة يتطوران بوتيرة أسرع من التغيرات البيولوجية التي تورث عبر الأجيال. فنحن نتحدث عن مشاكلنا الصحية فنقول إن الإنسان غير مُعدٍ للجلوس على المكتب معظم ساعات اليوم، أو أن أجسامنا تختزن الدهون لأنها مُعدة لحياة بدائية لا نعرف فيها متى سنحصل على الوجبة التالية، وأننا ننجذب للسكر لأنه مصدر طاقة ثمين. أننا نلبس الملابس العصرية ونعيش نمط الحياة العصرية إلا أن عدتنا (أجسامنا) تنتمي لعصر أقدم، عصر نعيش فيه في الخلاء، نجري فيه خلف الفرائس، ونهرب من وحوش الغاب. وعليه فإن سلوكنا الاجتماعي - في كثير من الأحيان - تقوده العواطف، وأنه - أي سلوكنا - كثيرا ما يكون خارج سيطرتنا العاقلة. إننا نفعل شيئا ثم نقول: «لا أدري بماذا كنتُ أفكر حين فعلت ذلك» أو «أعرف أن هذا خطأ، لكني لا أستطيع إلا أن أفعله». يبدو أن ثقافتنا تخبرنا شيئا، بينما جيناتنا تُخبرنا شيئا آخر.
المشاعر أتت أولا، إنها أكثر بدائية؛ لهذا يصعب مقاومتها. والانصياع لها - يُجادل البعض - أمر مُبرر، وعليه فعلى ثقافتنا أن تواكب وتدعم «فطرتنا» لا أن تعيبها وتحاربها. يُجادل بعضهم مثلا أن الرجال «مجبولون» على الخيانة، وأن هذا يأتي من كون مهمة أسلافنا من الرجال الصيد، إنهم مُغامرون، يذهبون بعيدا عن المسكن، بينما تبقى النساء - جامعات الثمار - قريبا من البيت، يهتممن بشؤونه، ويعتنين بالصغار. دور الرجل وفق هذه السردية ينتهي بتحقق الحمل. بهذا تكون مصلحة الرجل - من وجهة نظر بيولوجية بحتة - في أن ينشر جيناته عبر التزاوج مع أكبر عدد من النساء، وأن دوره ينتهي ما إن تُلقح البويضة. بينما تكمن مصلحة النساء في التزاوج واستبقاء الشريك ما أمكن؛ ليُسهم في تنشئة النسل.
يُمكن وفق هذا إيعاز الفارق الجندري في معدلات الخيانة إلى شيء فطري في الرجل. لاحظ أنني لا أتكلم هنا عن الشركاء الذين يختارون التعددية، بل عن الخيانة، أي اتخاذ شركاء آخرين دون علم الشريك الأساسي. ما يُعد خيانة بالطبع يعتمد على توقعات الشريكين من العلاقة. لكن ما يهمنا هنا هو المعنى الواسع للكلمة.
يمكن الاستجابة لمثل هذه الادعاءات بالآتي:
بالرغم من أن هذه السردية قد تُفسر، وتُساعد على فهم بعض السلوكيات البشرية، وبعض الظواهر مثل الفرق الجندري في معدلات الخيانة بين الرجال والنساء، إلا أنها لا تُبررها. لعلها تنجح في وصف كيف هو الوضع، لكنها لا تنجح في وصف كيف يجب أن يكون عليه الوضع.
رغم أن الفرق الجندري في انتشار الخيانة كان يُعزى سابقا لعوامل بيولوجية وسيكولوجية: ميل الرجل إلى اقتناص الفرص، والمرأة إلى الالتزام والاستقرار، إلا أن الأبحاث الأخيرة لا تُرجئه إلى فرق بيولوجي بل اجتماعي. فالمرأة كانت تعتمد لفترة طويلة على الرجل كمعيل، لكن استقلالها المادي في العقود الأخيرة يؤثر في معدلات الخيانة، والفارق الجندري يذهب باتجاه التوازن.
وضع هذه الحجة إزاء سلوكيات أخرى مدفوعة بالمشاعر تكشف ضعفها. مثل القتل نتيجة فورة غضب عنيفة. مع أن هذه السردية تشرح دوافع القاتل، لدرجة التعاطف معه ربما، إلا أنها لا تبرر الفعل، وعلى الفاعل تحمل العواقب. إننا لا نسأل الثقافة في هذه الحال أن تتفهم وجهة نظر الجاني، أو أن تدعم أفعاله الغريزية. بل نسأل الجاني أن يضبط نفسه، وأن يُهذب غرائزه.
تُقابل مشاعر الرغبة، مشاعر أخرى مثل الإحساس بالذنب. هذا يُخبرنا شيئا عن الظاهرة، وعن مدى تعقيدها. مشاعر الحب والغيرة والذنب كلها مشاعر تجابه الرغبة والشهوة للتأكد من بقاء الشريكين معا، بقاء الشريكين معا مُهم لتنشئة الذرية إذا أن طور الطفولة لدى البشر يمتد على نحو 18 سنة طويلة، تحتاج في الوضع الطبيعي شريكين يتبادلان أدوار الرعاية والإعالة على امتداد السنوات.
هناك سرديات أخرى تناقض هذه السردية، هذا لا يعني نفيها تماما، إنه فقط يلفت الانتباه لمدى تعقيد المسألة، إذ يحتمل أن تكون كلاهما حاضرة في تاريخ التطور رغم أن الواحدة تناقض الأخرى. يُجادل يوفال نوح هراري في كتابه العاقل أنه في بعض المجتمعات البدائية (ولعل الوضع هو نفسه في مجتمع الصيد والالتقاط) لا يفقه البشر إلى كون البويضة تُلقح بحيوان منوي وحيد، وعليه فعلى المرأة الحامل أن تقوم بواجبها وتُجامع الرجل الأقوى، كما تجامع الرجل المُخلص والمسؤول، مفترضة أنها تجمع بهذا التعدد أفضل الصفات من أفضل الرجال. فإن صحت هذه النظرية فإن أسلافنا من النساء كان لديهن أسبابهن للتعدد، تماما كما كان للرجال أسبابهم.
المشاعر في كثير من الأحيان تعتمد على الفعل تحديدًا، بل على السياق أيضا. فارتكاب فعلٍ ما في مجتمع يقبل بذلك النوع من السلوك (المثلية مثلا) لا يُصاحبه مشاعر سلبية (كالشعور بالخزي)، مقارنة بإتيان الفعل نفسه في مجتمع لا يقبل بذلك السلوك. وعليه فما نشعر به لا يعتمد على البيولوجيا وحدها، بل أيضا على الثقافة التي ننتمي إليها. وفي ثقافتنا المعاصرة التي لا تقبل بالخيانة، ارتكاب هذا الفعل قد يُولد مشاعر تختلف عن تلك التي يُولدها ارتكاب الفعل نفسه لدى أسلافنا التي كانت التعددية جزءًا طبيعيًا من ثقافتهم - أو هكذا يُعتقد.
خلاصة القول إنه وإن صح تطور المشاعر قبل وعينا بها، إلا أن إدراكنا لها، وقدرتنا على ترجمتها لغويا والتأمل فيها يُكسبنا قدرًا من السيطرة عليها. بالإضافة لذلك، فإن دوافعنا الغريزية ومشاعرنا مُتشابكة مع قيمنا ومع ما نعده ويعده المجتمع صحيحا أو خاطئا. وافتراض أن جميع المشاعر يُمكن الإلمام بها وتحليلها بالسهولة التي نحلل بها المشاعر المرتبطة بالجوع والعطش فيه استسهال للمسألة. القول بأن الخيانة شيء فطري يُهمل الدور الثقافي للسلوك البشري، ويُجرد القصة من عناصر أخرى فاعلة اجتماعية كانت أو حتى بيولوجية تهتم بالضبط والاتزان.
نوف السعيدي كاتبة عمانية وباحثة في مجال فلسفة العلوم