كيف السبيل للحوار؟

13 ديسمبر 2023
13 ديسمبر 2023

(1)

الاستعارات البصرية

بعد الصور التي نشرها الإعلام الإسرائيلي للنازحين الغزاويين الذين تمت تعريتهم وتقييدهم، ولفقدان العرب قدرتهم على تخيل كيف يُمكن لصورة كهذه ألا تهز العالم، صاروا يلجأون لاستعارات بصرية علّها تُقرب للأذهان «الغربية» فداحة ما يحصل. إحداها صورة ليهود يقفون عُراة فيما تُوجه إليهم بنادق الألمان.

عندما يأتي أحدهم بفعل لا تفهمه تماما، فإنك تسعى لوضعه في سياق مألوف من أجل أن تتخيل إن كانت ستبدر عنك ردة الفعل ذاتها. فأنت تقول مثلا: «لو ولدي اللي صاير فيه كذا، والله لسوي مثل اللى سواه وأكثر».

الغرض من التنقيب في الأراشيف بحثا عن استعارات بصرية للحرب، للظلم للإذلال - هو القول: إن كان لون البشرة أو نوع الملابس لا يُتيح لكم تخيلهم كبشر مثلكم، فدعونا نضعها إزاء صورة مألوفة، لديكم حكم وعاطفة تجاهها، هل ترون الآن محنة هؤلاء؟

الأمر المُشكل في مقاربة كهذه، هو أنها تجلب إلى الأذهان فكرة مقارنة المعاناة، وتأخذ النقاش إلى منطقة تُجانب الغرض الأساسي من الحوار. فسؤال إن كانت الإبادة في غزة أسوأ من الهولوكوست، أو إن كانت تشبه، أو إن كانت تشترك معه في بعض الجوانب، كلها تأخذ من القضية الفلسطينية خصوصيتها وفرادتها.

لا يبدو أن استعارة الإطار النظري للهولوكوست يخدم أو يلائم السياق الفلسطيني. يظل اليهود هم الضحايا النموذجيين لهذا الشكل من المعاناة، مثلما أن استعباد السود هو النموذج المعياري للعبودية (مهما أصررنا على أن الوظيفة من التاسعة للخامسة هي عبودية أيضا).

لا تأتي هذه الدعوة للاستغناء عن استعارة كهذه قبولا ببعض تعريفات معاداة السامية (مثل تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، التي يُعد فيها إجراء مقارنة بين السياسات الإسرائيلية والنازية ضربا من عداء السامية، أو الذي أشارت إليه آنجيلا ميركل- في كلمتها التي ألقتها في الكنيست في الذكرى الستين لإقامة الدولة الإسرائيلية- أي التشديد على الفرادة التاريخية لوحشية الهولوكوست، ما أخذه البعض ليعني أن في مقارنته بأي معاناة أخرى معاداة للسامية)، بل لأنها تنقل العِراك الفلسطيني لمنطقة أخرى. ففي النهاية ما إسرائيل إلا كيان مُستعمِر، وطبيعة الصراع تختلف عن طبيعة الصراع اليهودي.

من يستخدمون استعارات كهذه -كما أفترض-، يضعون «الغربي» كمُخاطب مُستهدف. فأنت لا تحتاج لأن تشرح لأخيك أو صديقك عن المعاناة الفلسطينية باستعارات ومقاربات. ومتى ما قُورن الهولوكوست بأي نوع آخر من المعاناة سهل (لنجاح البروبجندا الإسرائيلية) في الاستخفاف بالحجة، لتبدأ موجة من الأسئلة التفنيدية السطحية المتعلقة بعدد الضحايا، أو الكيفية التي تعرضوا بها للقتل، وهكذا.

علينا أن نتقبل فكرة عجزنا عن تغيير الآراء والعالم. ثمة من يصرون إصرارا ساذجا لكنه -بل لأنه- قادم من قناعة عميقة بالخير في الناس، وأن عدم وقوف الناس في صف إخوتهم المستضعفين يأتي من كونهم غير عارفين بالظلم الواقع عليهم. ثمة شر، وعلينا قبول هذا. ثمة أيدٍ تُرفع لرفض قرار فوري بوقف إطلاق النار، وعلينا قبول هذا.

(2)

الحرية لفلسطين.. الديمقراطية لألمانيا!

ثمة شعار يُردد اليوم في ألمانيا: «الحرية لفلسطين.. الديمقراطية لألمانيا». الشعار الذي رفعته المنظمات والأفراد يُعبر عن ضيق الفلسطينيين ومن يقفون في صف القضية الفلسطينية بالاستبداد الألماني. خصوصا وأنه بدأ يُستغل من قبل بعض الولايات ضد المُهاجرين من جنسيات محددة. حسب مرسوم أرسلته وزارة الداخلية في ولاية ساكسونيا للسلطات المحلية في الولاية في نهاية نوفمبر، صار لزاما على مُقدمي طلبات الجنسية توقيع وثيقة يؤكدون فيها على اعترافهم بحق إسرائيل في الوجود كشرط للحصول على الجنسية. يؤكد المرسوم على أهمية التوثق من عدم وجود مؤشرات لعداء السامية لدى مقدم الطلب.

والآن صحيح أن ساكسونيا ولاية يقوى فيها حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني الشعبوي، المُعادي للمهاجرين بطبيعة الحال، لكن هذا يعكس المناخ في ألمانيا حاليا. فكون القادمين من الشرق الأوسط هم المدافعون الأشرس عن القضية، فإن اشتراط اعترافهم بحق إسرائيل في الوجود لأخذ الجنسية، يبدو شرطا قد وضع ليكون طاردا لهم. اليمين المتطرف (مع عدائه المحتمل لليهود)، يستغل اليوم مُعاداة السامية كأداة للتضييق على المهاجرين وطردهم خصوصا ممن لا ينتمون للعرق الأبيض.

انتشر في الأيام الماضية تسجيل لفلسطيني يلبس الكوفية، يتعرض للمضايقة من قبل راكبي مترو بيض. قام الشاب بتسجيل نفسه من باب الحماية، فالكاميرات اليوم تُستخدم كشاهد وحارس. حسب شهادته على الشبكات الاجتماعية فإن ما فاجأه أكثر من واقع تعرضه للتحرش دون سبب معقول، هو عدم تدخل أي شخص للمساعدة. إن هذا حدث على مرأى من الجميع، دون أن يخطر ببالهم الدفاع أو التدخل. وحسب رأي الشاب، فإن ألمانيا صنعت نوعا من المعاداة لأنصار القضية الفلسطينية، وأججت بإعلامها وسياساتها العنصرية ضد الملونين.

وسط كل هذا لا يُستغرب أن يشعر المهاجر منا بانسداد الأفق. لا تُنبؤ الأحداث أن هذا في طريقه لأن يتغير - ليس في أي وقت قريب على أي حال. ووسط هذا لا يُمكننا إلا الترقب، والقلق من الآتي.