كيف الخروج من متاهات الجمود الفكري؟
كلمت تابعت ما يقول بعض ممن ينتسبون إلي الإسلام وقد انتشروا في الفضائيات العربية والأجنبية رحت أقلب في أوراقي وكتبي باحثًا عن طاقة نور أشاعها في مجتمعاتنا الإسلامية رجال من قبيل الشيخ محمد عبده (1849-1905) بعد أن خاض الشيخ في العديد من القضايا لعل قضية العقل كانت في مقدمة اهتماماته لدرجة أنه قدمه على النص عند التعارض بينهما وفي سبيل ذلك خاض الشيخ حروبًا ضارية ضد أنصار النص ودعاة التقليد ممن ملؤا حياة الناس بالخرافات والأوهام التي ابتعدت كثيرًا عن الإسلام ومقاصدة الحقيقية.
نلاحظ في واقعنا المعاصر أنه كلما خرج علينا مجتهد وقال برأي في قضية اجتماعية أو سياسية أو حتى فكرية تقوم الدنيا ولا تقعد من قبيل ما قال به البعض من ضرورة توثيق الطلاق حفاظًا على حقوق المرأة والأسرة وهو قول لا يختلف عن ضرورة توثيق عقود الزواج وإذا بالقضية قد تجاوزت كثيرًا مقاصدها الشرعية وأنقسم الفقهاء بين من يقول بأهمية توثيق عقد الطلاق وبين من يعتبر ذلك مروقًا على الشرع.
إن مثل هذة القضية وغيرها كانت مثار خلاف دائم في تاريخنا الحديث والمعاصر لدرجة أن غالبية الفقهاء في ثلاثينيات القرن التاسع عشر قد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها حينما عاد المبتعثون إلى أوروبا وقد تخصص بعضهم في علم الجراحة وعندما أعتزموا القيام بأعمالهم في مستشفي القصر العيني بالقاهرة تصدى لهم أنصار الجمود وقالوا بحرمة إجراء العمليات الجراحية حفاظًا على كرامة المسلم وحرمة جسده، لكن قوة الحاكم وقتئذ (محمد علي) ونفاذ بصيرته قد حالت دون هيمنة هذة الأراء وغيرها ولم تكن هذة القضية بعيدة عن قضية أخرى تصدى لها الأستاذ الإمام محمد عبده عندما كتب الشيخ السنوسي في واحة جغبوب بليبيا كتابا في أصول الفقه دعى فيه إلي الإعتماد على القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة فقط، فرد عليه أحد مشايخ المالكية في مصر (الشيخ عليش) وهو نفس الرجل الذي اتهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بالمروق عن صحيح الدين وذهب الرجل في عنفه لدرجة أنه هدد الشيخ السنوسي بالقتل وكان الرجل في زيارة لمصر التي غادرها على الفور حينما تلقى هذا التهديد وهناك أمثلة كثيرة على الجمود الفكري الذي حال دون إعمال المقاصد العامة للشريعة، فحينما اقترح الأستاذ الإمام محمد عبده إدخال علم تقويم البلدان (الجغرافيا) من بين العلوم التي يدرسها طلاب الأزهر في نهايات القرن التاسع عشر تصدى البعض لكتابة المقالات التي راحت تنشرها الصحف المصرية وجميعها تنال من الشيخ وتتهمه بالمروق عن صحيح الدين.
لقد كان بعض الفقهاء عقبة في سبيل فهم الدين بعد أن راحوا يغترفون من التراث بلا وعي معتمدين على القياس، فكلما عرضت عليهم قضية راحوا يبحثون عن مثال لها لا يخرجون عنه لدرجة أن طالبًا في الأزهر من بين رعايا الدولة العثمانية أراد أن يلتحق بأحد الأروقة وهو السكن المخصص لطلاب الأزهر فأختلف الفقهاء: هل بلد الطالب تؤهله للإقامة بذلك الرواق وفق نص الوقف؟ فقال البعض لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف، فقال الشيخ: أنا لا أقتنع بما تقول به كتب تقويم البلدان وإنما الذي يصح أن آخذ برأي فقيه وأن المتأخر ليس من حقه أن يقول بما يقول به المتقدم.
حينما اقترح الشيخ محمد عبده أن يدرس طلاب الأزهر مقدمة ابن خلدون رفض شيخ الأزهر بحجة أن العادة لم تجر بذلك وقد وصل الجمود بالبعض لدرجة أن أحد علماء جامع الزيتونة في تونس (الشيخ محمد بيرم) قد أستفتى الشيخ الإمبابي شيخ الأزهر عام 1887 عن مدي جواز تعلم المسلمين العلوم الرياضية والطبيعية فأفتى الشيخ بجواز ذلك مع تحفظات وقيود ولكن الشيخ محمد عبده قال بضرورة تعلمها بغير تحفظ.
لقد واجه الشيخ محمد عبده حروبًا ضارية من زملائه في الأزهر وخصوصًا حينما قال بضرورة التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة تأكيدًا على حق الأمه في معرفة حقوقها على حكامها وأن الحاكم إن وجبت طاعته فهو من البشر الذين يخطئون ولا يُمنع هذا الخطأ إلا بنصح الأمة له بالقول. لذا تكاتف عليه خصومة وأوغروا عليه صدر الحاكم (عباس حلمي الثاني) لدرجة إهانة الشيخ والتعريض به وهو ما دفع الرجل إلى الاعتكاف في بيته بعد أن ألمَ به المرض حتى أجهز عليه وشيعه المصريون في جنازة مهيبة (1905) وكان الخديوي عباس حلمي الثاني متغيبًا عن مصر فلما عاد غاظه ذلك لدرجة أنه عنف كبار موظفيه لمشاركتهم في تشييع جنازة الشيخ قائلا لهم: (جنازة حارة والميت كلب)
لم يكن محمد عبده من قبيل المشايخ الذين يجارون الحكام أينما ذهبوا بل كان جريئًا في الحق وقد واجه الحاكم في عز سلطانه عندما كان مفتيًا للديار المصرية وقد أعترض على إقدام الخديوي على ضم بعض أراض الأوقاف الخيرية إلي أملاكه الخاصة وهو ما أثار حفيظة الحاكم الذي أتخذ من بعض المشايخ وسيلة للنيل من الرجل حتى بعد مماته.
لقد راح الشيخ محمد عبده يحرك المياة الراكدة في كل أتجاه وقد رأي من جمود الفقهاء ومدرسي الأزهر ما يغلق باب الأجتهاد وقد دار حوار بينه وبين أحد المدرسين في الأزهر حيمنا طالبه بتقديم دروسه بالحديث عن فضائل الأخلاق وضرورة إعمال العقل فقال له الرجل: لا فائدة من ذلك فهو تعب من غير طائل، فقال له الإمام: حق عليك ان تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس عليك أكثر من ذلك، فقال الرجل: إذا تحققت أستحالة المنفعة كان الأمر والنهي لغوًا.
حينما لاحظ الشيخ الإمام كثرة الحديث عن قرب نهاية العالم والقول بأن علامات الساعة قد ظهرت جلية وقد راح الشيوخ يقولون بذلك في دروسهم وعلى منابرهم لدرجة أن بعضهم راح يدعو الناس بالتوقف عن السعي والعمل والإنقطاع إلي العبادة وقد أسماهم الشيخ بأنصار الجهل وأعوان البؤس وقد تساءل: ماذا عرف هؤلاء عن الزمان وقيام الساعة حتى يقولوا بكل ما يقولون به؟
لقد كانت مشكلة الشيخ مع زملائة من شيوخ الأزهر هي قضية فكرية من الدرجة الأساسية فقد كان يُعول على العقل مع الوجدان الصادق (القلب) وبقدر من الوعي يقول الإمام: إياك أن تعتقد بما يقول به السذج بأن ثمة فرق بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة بمقتضى الفطرة والغريزة؟ فالخلاف بينهما يحدث عندما تحدث العلل والأمراض وقد أجمع العقلاء بأن المشاهدات بالحس الباطني (الوجدان والقلب) هي من مبادئ البرهان العقلي فقد يدرك عقلك الضرر من عمل ما ولكنك تعمله طوعًا لوجدانك وربما أيقنت المنفعة في أمر ما وأعرضت عنها لدافع من سريرتك فتقول إن ذلك يدل على تعارض العقل والوجدان وهي حجة من لا يعرف نفسه وعليك أن ترجع إلى نفسك لكي تتحقق من أحد الأمرين فإما أن يقينك ليس بيقين وأن صورة عرضت عليك من قول غيرك فأنت تظنها علما، وإما أن وجدانك وهم تمكن فيك.
سيبقي الشيخ الإمام محمد عبده المرشد الأمين لكل من يتطلعون إلي معرفة دينهم
رحم الله الشيخ ونفعنا بعلمه.