كبح جماح الغلاء الذي بدأ
تشير بعض التقارير والدراسات إلى أن الاقتصاد العالمي بدأ يعاني من ارتفاع في أسعار كثير من السلع والخدمات، وذلك بالتزامن مع نمو اقتصادي معتدل ناتج عن التعافي التدريجي من جائحة كوفيد-١٩. وليس الاقتصاد العماني بمعزل عن تلك التطورات، حيث ظهرت بوادر نمو اقتصادي في بعض القطاعات وبدأ معه ارتفاع ملحوظ في أسعار كثير من السلع والخدمات، الأمر الذي يستدعي معالجات سريعة لكبح جماح ذلك الارتفاع، حتى لا يجد الناس أنفسهم أنهم قد خرجوا من أتون الوباء إلى لهب الغلاء.
قبل الدخول في مناقشة صلب هذا الموضوع أجد أنه المناسب التطرق إلى المصطلحَين اللذَين يستخدمان لوصف ظاهرة الارتفاع في الأسعار، أحدهما مصلح أصيل في اللغة العربية وهو "الغلاء"، والمصطلح الأخر هو "التضخم" الذي مع أنه مصطلح سائد الاستعمال ومعروف حتى بين عامة الناس، لكن يمكن وصفه بالطارئ أو الدخيل؛ لأنه ترجمة شبه حرفية من لغة أخرى. والهدف من التطرق إلى هذين المصطلحين هو إثراء الجانب الثقافي من الموضوع، ولنحفظ للغتنا العظيمة ألقها وجمالها ونتجنب الإسهام في إضعافها أو جعلها بُورًا مجدبةً، وهي خصبة ثرية بسعة مفرداتها وجمال معانيها.
جاء في معجم لسان العرب أن "الغلاء نقيض الرُخص، غلا السعر يغلو غلاءً... وغالى الشيءَ اشتراه بثمن غالٍ". أما كلمة "تضخم" المترجم عن كلمة "inflation" في اللغة الإنجليزية فقد عرّفته الموسوعة البريطانية بأنه ارتفاع جمعي في المعروض من النقد، أو في الدخل النقدي، أو في الأسعار. أو هو ارتفاع في المستوى العام للأسعار بصفة غير معقولة وغير مسيطر عليها. وقد أرجع أحد معاجم اللغة الإنجليزية تاريخ نشأة هذا المصطلح إلى بداية القرن الرابع عشر الميلادي، وأشار إلى أن أصله يعود إلى الكلمة اللاتينية inflacio التي اشتقت منها الكلمة الانجليزية inflate و inflation التي تعني "انتفاخ" أو "تورم". لذلك لا أجد أي مبرر لاستخدام كلمة "تضخم" الدخيلة المستعارة، بدل كلمة "غلاء" التي هي كلمة أصيلة ومباشرة وأكثر دقة للتعبير عن المقصود. وربما تقبّل البعض كلمة "تضخم" لجهل وعدم معرفة كافية باللغة العربية، أو نتيجة لخضوعهم بوعي للقاعدة الخلدونية "إن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب".
نعود إلى صلب الموضوع، وهو الغلاء الذي بدأت أكثر اقتصادات العالم تعاني منه بالتزامن مع النمو الاقتصادي التي تتمتع به معظم دول العالم بمعدلات ونسب متفاوتة منذ بداية العام الحالي، وذلك بفضل التعافي التدريجي من وباء كوفييد-١٩. ففي أمريكا مثلا يبلغ معدل الغلاء حاليًا حوالي ٤٪ مقارنة بما كان عليه خلال الشهر نفسه من العام الماضي، ويبلغ في الاتحاد الأوروبي حوالي ٣،٤٪ أما في اليابان فهو عند أقل من ١٪. ورغم أن تلك المعدلات تبدو منخفضة، لكنها في حقيقتها وأثرها معدلات مهمة إذا ما قورنت بمعدلات النمو الاقتصادي المنخفضة في تلك الدول، خاصة وأن بعض الخبراء يحذرون من ارتفاعها خلال الفترة القادمة. لذلك فإن الخبراء في صندوق الاحتياطي الفدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي يتحدثون منذ فترة عن إجراءات سيتم اتخاذها لكبح جماح الغلاء على مستوى اقتصادات تلك البلدان وأيضًا على مستوى الاقتصاد العالمي.
ومن الجدير بالقول هنا أن الغلاء الذي بدأ في الأشهر الأخيرة كان متوقعًا، إذ إن الانكماش الذي شهده الاقتصاد العالمي في عام ٢٠٢٠ كان من الطبيعي أن ينتهي مع انكسار حدة الوباء. كما أنه من المعروف أن الغلاء يرتبط إلى حد كبير بالنمو الاقتصادي، لذلك فإن الارتفاع الحالي في الأسعار لم يكن مفاجئًا بل كان طبيعيًا ومتوقعًا من كل الخبراء الاقتصاديين. لكن المهم ألا يتجاوز مستوى الغلاء مستوى النمو في الاقتصاد، وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية وتدني مستوى المعيشة، خاصة بين فئة أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة، وهم الذين يشكلون الغالبية العظمى من الناس في كل الدول.
ليست عمان بمعزل عن الاقتصاد العالمي، ولذلك فإن الاقتصاد العماني يشهد حاليًا درجة عالية من النمو عند تقويمه بالأسعار الجارية، وهو نمو ناتج عن ارتفاع الإيرادات من النفط ومن بعض القطاعات غير النفطية. أما الغلاء فتشير الإحصاءات المنشورة أن معدله في شهر سبتمبر الماضي قد بلغ حوالي ٢،٥٪ مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، وهذا المعدل يزيد كذلك عما كان عليه في شهر أغسطس الماضي، ومن المتوقع أن يستمر في الارتفاع خلال الأشهر القادمة. ولما كان ذلك المعدل هو المتوسط المرجح لسلة من السلع والخدمات فمن الطبيعي أن سعر بعض السلع الضرورية قد ارتفع بأكثر من ٢،٥٪. لذلك نجد أن فئات واسعة من المجتمع قد دخلت في لهب الغلاء، وبدأت تعاني منه، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الفجوة وعدم العدالة في توزيع الدخول والثروات داخل المجتمع.
وإلى جانب الأسباب الخارجية فإن من أسباب الغلاء على المستوى المحلي هو فرض ضريبة القيمة المضافة في شهر أبريل الماضي، وكذلك الارتفاع في سعر الوقود، الذي يتخذ منذ أشهر مسارًا متسارعًا نتيجة ارتفاع سعر النفط الخام. ومن المعروف أن ارتفاع سعر الوقود يؤثر على عدة قطاعات، من أهمها قطاع النقل والخدمات المرتبطة به مثل قطاع تجارة التجزئة، بما في ذلك أسعار المواد الغذائية ومواد البناء وكثير من السلع الاستهلاكية الأخرى. وربما ستكون المحافظات البعيدة عن الموانئ، مثل محافظات مسقط و الداخلية والظاهرة والشرقية شمالًا وجنوبًا، هي الأكثر تأثرًا بارتفاع تكلفة النقل، الأمر الذي سيودي إلى ارتفاع أكبر في أسعار معظم السلع في تلك المحافظات. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع فسنعود للتأكيد عليه في فقرة لاحقة من هذا المقال.
ومع التأكيد على ما قلناه في مقالات سابقة عن أهمية الإنفاق التنموي الحكومي في بلد مثل عمان، حيث لا يستطيع القطاع الخاص وحده تحقيق النمو الاقتصادي الكافي لخلق فرص عمل، فإنه من المهم أن يكون للإنفاق التنموي نصيب وافر في ميزانية العام القادم. إلا أن زيادة الإنفاق التنموي وارتفاع مستوى السيولة النقدية في السوق قد يؤدي إلى زيادة في أسعار الكثير من السلع والخدمات، وذلك بحكم العلاقة الطردية بين الغلاء والنمو الاقتصادي. ولذلك فإنه بقدر ما إن هناك حاجة لزيادة الإنفاق التنموي، هناك أيضًا حاجة إلى اعتماد سياسات واتخاذ خطوات تحد من أثر الغلاء وتحول دون تآكل الدخول وانخفاض القدرة الشرائية من أجل المحافظة على مستوى المعيشة الذي كان قبل جائحة كوفيد-١٩ على الأقل، هذا إذا لم يكن بالإمكان تحسينه. ومعلوم أنه ليس لدى السلطنة من أدوات السياسة النقدية ما لدى أمريكا أو الاتحاد الأوروبي أو اليابان لكبح جماح الغلاء أو للحد منه حاليًا، كما أن اتخاذ سياسات مالية انكماشية سيعيق النمو الاقتصادي من جديد، لذلك لم يبق سواء اتخاذ الحكومة لبعض الخطوات الإدارية والتنظيمية التي لا تؤثر على مستوى الإنفاق العام ولا على الائتمان المصرفي.
ومن أهم الخطوات الواجب اتباعها فورًا، إطلاق وتشجيع المنافسة في السوق، وذلك بإزالة المعوقات الإدارية، خاصة تلك التي تعيق سرعة تسجيل الأعمال وإصدار التراخيص، سواء كان ذلك للإنتاج المحلي أو للاستيراد من الخارج. كما أنه على أصحاب الأعمال والمستوردين البحث عن منتجات ذات جودة عالية وبأسعار مقبولة تناسب مستويات دخول أكثر فئات المجتمع، وعلى هيئة حماية المستهلك أن تشدد الرقابة على السلع والخدمات المعروضة للبيع للتأكد من سلامتها وجودتها وكذلك من أسعارها. ومن أجل السماح بنمو اقتصادي معقول، ولا يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار، فإنه يجب عدم فرض رسوم أو ضرائب جديدة قبل أن يعود متوسط دخل الفرد إلى المستوى الذي كان عليه قبل انهيار أسعار النفط في عام ٢٠١٤.
وحيث أن سعر الوقود يعتبر أحد العناصر المهمة لكثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية، ويشكل نسبة معتبرة من مصروفات الفرد والعائلة، فإنه من المناسب، بعد أن تجاوز سعر برميل النفط الخام ٨٠ دولارًا، أن يتم تثبيت سعر الوقود عند سعر معين ثم ينظر فيه من جديد بعد سنتين، بناء على التطورات في سوق النفط. كما أنه من المناسب فتح المجال لاستيراد الوقود من الخارج، حتى يستفيد المستهلكون مما قد يوجد من فروقات بين سعر الوقود المنتج محليا وسعر المستورد من الخارج. ويمكن للحكومة التعويض عما قد تخسره من انخفاض مبيعات المصافي بعدة وسائل، منها الضريبة الجمركية التي ستفرضها على المستوردات من الوقود، وكذلك زيادة إنتاج المصافي لتصدير المزيد من الوقود ليباع بالسعر العالمي له. وبالإضافة إلى ما قد يحققه استيراد الوقود من فوائد مالية في صورة ضرائب ورسوم جمركية، فإن استيراده من الخارج سيكون له أثر إيجابي على حركة الموانئ وعلى قطاع الإمداد (اللوجستي) بشكل عام، الأمر الذي يعني إمكانية تحقيق فوائد مالية واقتصادية أكبر مما هي عليه في الوضع الحالي.
* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية