قمة بغداد الثلاثية .. طوق نجاة وليست حلفا!!
بالرغم من كل التحديات والظروف التي تمر بها المنطقة، ومحاولات إعادة صياغة العلاقات بين بعض دولها على الأقل، والسعي الحثيث من جانب بعض القوى والأطراف الإقليمية والدولية للدفع نحو، أو لفرض صورة نمطية محددة لعلاقة النفوذ -إذا جازت التسمية- بينها وبين الدول العربية، إلا أن القمة الثلاثية الرابعة بين العراق ومصر والأردن، والتي شارك فيها كل من الرئيس عبدالفتاح السيسي والملك عبدالله الثاني ابن الحسين ورئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي والتي عقدت في بغداد يوم 27 يونيو الماضي، شكلت في الواقع تطورًا وملمحًا ينبغي التوقف قليلا أمامه، ليس فقط لأنه تطور ستترتب عليه نتائج وتطورات أخرى منتظرة أو متوقعة خلال الفترة القادمة، ولكن أيضًا لأن القمة الثلاثية أحدثت ردود فعل من جانب بعض الأطراف التي حاولت التقليل من أهمية وتأثير هذه القمة، إما من خلال ممارسات محددة على الأرض تحرج القيادة العراقية بشكل أو بآخر، أو من خلال تعليقات شككت في ما يمكن أن تقدمه مصر والأردن للعراق الشقيق، ومع التأكيد على أنه لا يعنينا الرد على ذلك، لأن الأطراف المعنية قادرة على القيام بذلك لو أرادت، إلا أنه من الأهمية بمكان إلقاء بعض الضوء على قمة بغداد الرابعة التي عقدت أواخر الشهر الماضي.
وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: إنه لا بد من الاعتراف بحقيقة أن العمل العربي المشترك، سواء على الصعيد العربي الواسع من خلال جامعة الدول العربية، أو من خلال التنظيمات محدودة العضوية كمجلس التعاون لدول الخليج العربية والاتحاد المغاربي، عانى في الواقع خلال السنوات الأخيرة، وإلى حد تجرأت معه بعض الأطراف الإقليمية على مصالح عربية بشكل غير مسبوق، في محاولات منها لاستغلال ما تعرضت له الدول العربية من هزات على مدى العقد الأخير، وليس مصادفة أن تشترك كل الأطراف الإقليمية الواقعة على تخوم العالم العربي أو داخله في هذه السمة من التجاوزات المباشرة أو غير المباشرة على المصالح العربية، سواء بالنسبة للمياه والروافد النهرية التي تمر بها وتصل إلى الدول العربية، أو بالنسبة للأطماع في الأراضي العربية ومحاولات التوغل وراء الحدود على حساب هذه الدولة العربية أو تلك بحجة حماية مصالحها، ومحاولة فرض معادلات على الأرض ليست في صالح الجانب العربي.
وبالنظر إلى أن التعامل مع مثل تلك التطورات يتطلب مزيدا من الوقت، كما أنه يحتاج بالضرورة إلى قدرة على استعادة القوة الذاتية، تمهيدا لإعادة الأوضاع إلى نصابها سلميا، وإنهاء التوغل على حساب الجانب العربي، وبشكل يحفظ مصالح كل الأطراف عربية وإقليمية أيضا، وعلى قاعدة احترام وحدة أراضي وسيادة الدول العربية وكل الدول المعنية بالطبع، فإن كل تطور عربي يمكن أن يعزز القدرة الذاتية العربية بشكل أو بآخر هو تطور مرحب به، سواء كان ذلك على الصعيد الثنائي بين دولتين عربيتين، أو على الصعيد الأوسع نسبيا بين أكثر من دولة عربية، لسبب بسيط هو أن مصلحة أي دولة عربية تفيد أو تصب في النهاية في صالح الأشقاء بشكل أو بآخر، سواء اعترفنا بذلك أو لم نعترف، ولكن كل الأطراف الإقليمية والدولية ذات المصالح أو المعنية بهذه المنطقة الحيوية، تدرك ذلك جيدًا وتتعامل مع الدول العربية على أساسه. ويكفي النظر في أي اتجاه أو نحو أي قضية عربية لنتأكد من ذلك.
ومع أهمية وضرورة تفعيل العمل المشترك من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومن خلال الاتحاد المغاربي، وكذلك من خلال جامعة الدول العربية بالطبع، فإن التحركات على الصعيد الثنائي، العماني السعودي مثلًا، أو المتعدد الأطراف، المصري-الأردني-العراقي، يشكل قاعدة وأساسًا مفيدًا لتعزيز التقارب والعمل المشترك لصالح الأطراف المعنية، ولصالح المنطقة ككل في النهاية، خاصة إذا تم النظر إليه بأفق واسع، وبعيدا عن الحسابات الضيقة لهذا الطرف أو ذاك.
وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى القمة المصرية-العراقية-الأردنية التي استضافتها «بغداد السلام والعروبة» على حد وصف رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
وإذا كان العراق الشقيق يواجه في هذه المرحلة تبعات وسلبيات ما مر به، وما تعرض له خلال العقود الأربعة الماضية، منذ اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية في سبتمبر عام 1980، مرورا بالغزو العراقي للكويت وتحطيم القوة العراقية في حرب تحرير الكويت عام 1990، ثم حصار العراق والغزو الأمريكي له عام 2003، ثم الإعادة المتعمدة لصياغة النظام السياسي العراقي برعاية واشنطن وخدمة لمصالحها، وصولًا إلى الوضع الراهن، فإن القمة العراقية-المصرية-الأردنية لا تعدو أن تكون بمثابة طوق نجاة، أو محاولة للوقوف إلى جانب العراق الشقيق للأخذ بيده لمواجهة مشكلات تبدو مصممة عن عمد للدفع به نحو الفشل، برغم كل الإمكانات التي يتمتع بها وتتوفر له ماليًا ونفطيًا وفي مختلف المجالات، وليست أزمة الكهرباء التي وصلت إلى العاصمة العراقية، والتخريب الممنهج لأبراج الكهرباء في أكثر من محافظة عراقية، ووقف الإمدادات بالغاز اللازم لتشغيل محطات الكهرباء بمبرر أو بآخر سوى نماذج تقول الكثير، ولا تقل خطورة عن محاولات التوسع الأرضي داخل الحدود العراقية بحجة محاربة إرهاب حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا، ومحاولة إقامة مناطق آمنة داخل حدوده وهو ما طالب العراق بإنهائه ووضع حد له.
ثانيا: إنه من الطبيعي أن تدرك القيادات العراقية طبيعة وعمق الأزمة التي يتعرض لها العراق، خاصة أن هناك من يحاولون اللعب على الساحة العراقية وتحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات، خاصة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأحيانا بين بعض الأطراف الإقليمية بشكل أو بآخر.
وفي هذا الإطار فإنه ليس مصادفة أن يعمل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على محاولة سد الطريق أمام من يحاولون استخدام العراق ساحة لتصفية الحسابات، سواء باستخدام الكاتيوشا لقصف أهداف ومواقع أمريكية في العراق، أو قواعد توجد فيها قوات أمريكية، ومع أن ذلك سبب ويسبب حرجًا للقيادة العراقية، فإن رئيس الوزراء العراق أكد باستمرار على أنه لن يسمح باستخدام العراق ساحة لتصفية الحسابات، وأنه يرفض في الوقت ذاته استخدام الأراضي العراقية للعدوان على أي من جيران العراق، وفي حين تحاول الحكومة العراقية الالتزام بذلك في سياساتها مع مختلف الأطراف، والعمل على حل المشكلات اللوجستية ومشكلات الطاقة وإعادة الإعمار وإعادة صياغة العلاقات بين الأطراف والقوى العراقية، وعلى أرضية ومرجعية عراقية وطنية صرفة، فإن تراكمات وإفرازات العقود الماضية لن تنتهي بسرعة، أو بمجرد التمني، لأنه أصبحت هناك قوى على الأرض لها مصالح في استمرار مثل تلك الحالة.
وليس أدل على ذلك من أن العراق الذي ينتج نحو أربعة ملايين برميل من النفط يوميا يواجه أزمة مالية وعجزا في الميزانية وتدهورا في الخدمات، وفي الوقت الذي يحاول فيه رئيس الوزراء العراقي سد الاحتياجات العراقية والتعاون في ذلك مع كل من يمكنه تقديم ما يفيد العراق، عربيا كان أو غير عربي، فإن زيارة «الكاظمي» للسعودية والإمارات قبل نحو ثلاثة أشهر، وجولته الأوروبية في الأيام الأخيرة تتكامل مع محاولته الإسهام في تحقيق تقارب سعودي-إيراني بات ضروريا السير نحو تحقيقه تحقيقًا لمصالح الطرفين الإيراني والسعودي ولمصالح المنطقة ككل، وكان طيبًا أن تستضيف بغداد أكثر من جولة من الاتصالات التمهيدية بين الجانبين الإيراني والسعودي، والمأمول أن تسفر تلك الاتصالات عن تقارب يفيد طهران والرياض والمنطقة من حولهما، خاصة أنه لم يعد ممكنًا استمرار المواجهات والنزاعات والمنافسات التي تدفع شعوب المنطقة ثمنًا غاليًا لها، ثم تأتي القمة الثلاثية المصرية-الأردنية-العراقية لتعطي دفعة للجهود العراقية لمواجهة تحديات هذه المرحلة، وبما يحافظ على العراق الشقيق ومصالحه الوطنية وأمنه واستقراره، وإتاحة الفرصة أمامه لتحقيق أهدافه وأولوياته الوطنية حسبما يتطلع أبناء الشعب العراقي الشقيق ودون ارتهان على أي نحو لهذا الطرف الإقليمي أو الدولي أو ذاك، وإذا كانت واشنطن قد سحبت وتستعد لسحب معظم قواتها من العراق، فإن الحكومة العراقية تحرص على ألا يكون ذلك مدعاة لتمدد بعض الأطراف، فأي فراغ تملؤه القوة الوطنية العراقية وليست أي قوة أو طرف آخر بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا هو ما يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس العراقي برهم صالح تأمينه والتغلب على أي عقبات عراقية أو إقليمية قد تقف في طريق تحقيقه.
ثالثا: إنه مع إدراك أن الأمن العراقي هو جزء مهم من الأمن القومي العربي وأن استعادة العراق لقوته ولقدرته الذاتية تفيده كما تفيد الأشقاء من حوله، فإنه من المفهوم أن القمة المصرية-العراقية-الأردنية، يمكن أن تثير شكوك أو حتى مخاوف بعض الأطراف الإقليمية، صحيح أن مصر والأردن لا تريدان الدخول في أحلاف أو تكتلات، بالمعنى المعروف لذلك، خاصة أنهما جربا ذلك من قبل وفي إطار مجلس التعاون العربي الذي تشكل عام 1989 بمشاركة اليمن، كما أن الدولتين -مصر والأردن- تبديان رغبة واستعدادًا لتطوير علاقاتهما مع مختلف الأطراف الإقليمية، بما يخدم مصالحهما ومصالح المنطقة من حولهما، ولكن البعض ينظر لما يحدث من منظار مصالحه الذاتية الضيقة، وهو أمر يحدث في السياسة وفي علاقات الدول أيضا في ظل ظروف أو معطيات محددة، ومن هنا شكك البعض في القمة وأهدافها، ووصفها البعض بأنها «حلف بغداد الجديد» وهو أمر يجانب الحقيقة والواقع إلى حد كبير.
ففي حين تدرك الدول الثلاث أن ما تمر به المنطقة العربية من تطورات يحول دون تشكيلها حلفًا أو كيانًا يجمعها معًا ويتم من خلاله التعامل مع الدول الأخرى سياسيًا أو أمنيًا أو حتى اقتصاديًا -حتى الآن على الأقل -خاصة أن ما تم حتى الآن لا يعدو أن يكون تشكيل مجلس تنسيقي بين الدول الثلاث وسكرتارية إدارية في العاصمة الأردنية عمّان، للإعداد للاجتماعات والتوقيع على عدد من الاتفاقيات الثلاثية والثنائية للتعاون فيما بينها لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، فإن قيادات الدول الثلاث تفضل تنمية وتطوير تعاونها العملي في مجالات الطاقة الكهربائية والغاز والنفط والبنية التحتية والمجالات الأخرى بخطوات محسوبة ومدروسة ودون حرق للمراحل، أو الوقوع تحت ضغط أي شعارات لم تعد هناك حاجة إليها في ظل الواقع العربي الراهن والمشكلات التي تعانيها الدول العربية.
وإذا كانت تتوفر بالفعل ظروف ومعطيات تجعل من التعاون والتنسيق بين مصر والأردن والعراق مسارًا وطريقًا يحقق مصالح الدول الثلاث، ويرقى إلى التكامل الاستراتيجي كما هو مأمول، خاصة أن العراق يحتاج إلى عمليات إعادة إعمار واسعة النطاق، وهو ما تتطلع إليه أطراف إقليمية أخرى تريد الاستفادة منه، فإن وعي القيادات في الدول الثلاث والرغبة في خدمة المصالح المشتركة والمتبادلة، وبصيغ تفيد كل الأطراف اليوم وغدا تجعلها تحرص على تجنب سلبيات التجارب السابقة للتنسيق والتعاون بين الدول العربية بوجه عام، وفي ما بينها بوجه خاص، حتى تكون خطواتها واقعية ومفيدة عمليا.
وعلى الصعيد السياسي، فإنه في الوقت الذي تناولت فيه القمة العراقية -المصرية-الأردنية مختلف القضايا والتطورات في المنطقة، من القضية الفلسطينية إلى سوريا واليمن وليبيا وسد النهضة والتأكيد على مواقفها المعروفة حيال كل منها فإن ما يمكن تسميته بطوق النجاة، أو إطار الدعم المتبادل بين مصر والأردن والعراق يشير إلى أهمية وضرورة استعادة وتطوير التعاون والتنسيق بين الأشقاء على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف للحفاظ على أمنها ومصالحها ومواجهة أي محاولات للتوغل على حسابها وأرضها ومائها ودون الوقوع في أسر صيغ تفككت من قبل لأسباب معروفة، ومن هنا فإنه لا محل للحديث عن مشرق عربي جديد ولا عن شام جديد ولا عن حلف بغداد جديد لأن الدول الثلاث لا تريد الدخول في منافسات ولا صراعات مع أي أطراف إقليمية أخرى، أما سوريا فإنها الغائب الحاضر على محادثات القمة الثلاثية ومن غير المستبعد أن يمتد طوق النجاة أو إطار الدعم المتبادل ليشمل سوريا الشقيقة لتستعيد مكانها ودورها بين أشقائها ولتنفض عنها غبار العشرية السوداء.