قضية واحدة يسود فيها المتطرفون الإسرائيليون
ترجمة: أحمد شافعي -
الضفة الغربية تحترق. فمنذ أسابيع عديدة ينفذ الجيش الإسرائيلي غارات متكررة واسعة النطاق على البلدات الفلسطينية باستعمال الطائرات المسيرة والقوات البرية. وقامت جماعة من المستوطنين المسلحين باستهداف الفلسطينيين في بلدة جيت فغضَّت قوات الأمن الإسرائيلية الطرف عن ذلك. وهكذا يجري إفراغ الأحياء الفلسطينية من أهلها. ويشيع العنف في كل مكان، ويبدو المجتمع الدولي عازما على عدم إيقافه.
وليس في هذا جديد. فهذه الموجة الجديدة من العنف نتيجة حتمية لما لا يمكن وصفه إلا بالجهود الإسرائيلية الممتدة منذ عقود لتحقيق السيطرة الكاملة على الضفة الغربية. ومنذ أمد بعيد، يقلل حلفاء إسرائيل، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، عمدا من وجود هذا السعي أو يتجاهلونه تماما.
وقد نبَّه مسؤولون غربيون أخيرا إلى أن الفلسطينيين يواجهون خطر «زحف» إسرائيلي إلى ضم الضفة الغربية، وكأن إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية عالمان منفصلان. ووفقا لهذه الرؤية، تكون إسرائيل دولة ديمقراطية تديرها سلطات مدنية، ويكون الاحتلال مؤقتا يديره جنرالات الجيش.
في حين أنه لا يوجد غير نظام حكم واحد في (إسرائيل-فلسطين). فالسلطة الفلسطينية تسيطر على جوانب محدودة في مناطق متناثرة من الضفة الغربية، وإسرائيل تحكم أغلبية جوانب الحياة في الأراضي.
فليس الضم إذن احتمالا مستقبليا، ولكنه حقيقة ماثلة من حقائق الحياة، والإسرائيليون والفلسطينيون يعيشون في واقع الدولة الواحدة.
على المستوى الدولي، ينصب أغلب اللوم لسياسات إسرائيل الراهنة على عناصر اليمين المتطرف في حكومة إسرائيل، من أمثال إيتامار بن جفير وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية. إذ تعد الولايات المتحدة كلا الرجلين دخيلين مغامرين لا مكان لهما في تيار السياسة الرئيسي.
في السادس والعشرين من فبراير سنة 2023، اقتحم مئات المستوطنين بلدة حوارة الفلسطينية، فلقي فلسطيني مصرعه، على يد مستوطن في الغالب، بحسب تحقيق أجرته منظمة بيتسليم الحقوقية ومجموعة إيرشوت للتحليل الصوتي، وأصيب أكثر من مائة آخرين. وبعدها قال الوزير سموتريتش إن «حوارة ينبغي أن تزال. أعتقد أن دولة إسرائيل ينبغي أن تفعل ذلك، وليس الأفراد لا قدّر لله». ووصف متحدث باسم الخارجية الأمريكية تصريحه هذا بـ«المقزز» (وقد اعتذر سموتريتش بعد انتقادات واسعة له).
غير أن تطرف الوزيرين سموتريتش وبن جيفير رمز أكيد لاستراتيجية إسرائيل الاستيطانية الواضحة: وهي السيطرة الدائمة على كامل الأراضي في ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط.
إن خطط إسرائيل للسيطرة الجغرافية والسياسية التامة على الضفة الغربية واضحة منذ عقود. في عام 2022، أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المبادئ الأساسية لحكومته الراهنة فقال إن «للشعب اليهودي حقا حصريا لا يزول في جميع أجزاء أرض إسرائيل. وسوف تعزز الحكومة المستوطنات في جميع أرض إسرائيل وتطورها» مدرجا الضفة الغربية تحديدا في وصفه لهذه الأرض.
وثمة قادة إسرائيليون آخرون يقولون منذ أمد بعيد تصريحات مماثلة، ففي عام 1975 قال وزير الدفاع شيمون بيريز ـ الذي مضى بعد ذلك إلى توقيع اتفاقية أوسلو للسلام ـ «إن الجدال المشهود اليوم لا يتعلق بالحاجة إلى الاستيطان، ولا حتى بخريطته أو أبعاده، وإنما يتعلق بإجراءات تنظيمه» وأضاف أن «الجدال أكبر من جدال على رؤية، وأقرب إلى جدال حول التوقيت».
فليس احتلال إسرائيل للأرض «مؤقتا»، إنما هو دائم، ماديا وجغرافيا وإداريا.
إذ أشرفت إسرائيل منذ عام 1967 على إقامة أكثر من مائتين وخمسين مستوطنة وعلى ما تعده الحكومة «بؤرا استيطانية» في الضفة الغربية. وواحد من كل عشرة إسرائيليين الآن مستوطن ـ بإجمالي سبعمائة ألف ـ وهؤلاء ينعمون بمثل حقوق أي إسرائيلي يهودي آخر. وقد تم استثمار مليارات الدولارات في البناء والربط وإقامة البنية الأساسية الدائمة في أرض هي بموجب القانون الدولي أرض فلسطينية.
وعلى مدار ذلك دأبت إسرائيل على استخدام الموارد القضائية والإدارية لإضفاء بريق من الشرعية على أفعالها في الضفة الغربية المحتلة. وقد دأبت وزارة العدل على الاحتجاج أمام المحكمة العليا بأن «الاحتلال العسكري» مؤقت في جوهره. ووافقها القضاة على ذلك. وهذا أمر فائق الأهمية لأن القانون الدولي يعد أي احتلال عسكري مؤقتا بطبيعته.
في الوقت نفسه، عملت حكومات إسرائيلية متعاقبة، تعمل بموافقة من القضاء، على تحويل الضفة الغربية تحويلا دائما. فبعد أسابيع من انتهاء حرب 1967، ضمت الدولة رسميا سبعة وعشرين ميلا مربعا من الضفة الغربية هي المعروفة الآن بالقدس الشرقية. وأقامت نظام تخطيط يرفض ما لا يقل عن 95% من طلبات الفلسطينيين للحصول على تصاريح البناء وتصدر بانتظام قرارات بهدم منازلهم. وأنشأت مجالس استيطان إقليمية ومناطق صناعية، واستولت على أقسام كبيرة من أراضي الضفة الغربية إذ اعتبرتها «أراضي دولة» أو «مناطق إطلاق نار» عسكرية محظورة على الفلسطينيين.
وقامت بتعديل قانون الانتخابات الإسرائيلي بحيث يتسنى للمستوطنين التصويت في مستوطناتهم، وكان القانون من قبل يوجب على المواطنين ـ في ما خلا استثناءات محدودة ـ أن يقوموا بالتصويت من داخل البلد. ووسعت سلطة مجلس التعليم الأعلى في إسرائيل ليحتوي جميع المؤسسات الإسرائيلية في المستوطنات. وأقامت حاجز فصل يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم.
لقد قامت سياسة الاستيطان الإسرائيلية على عدم الشرعية منذ بدايتها، باعتراف الحكومة نفسها. فمنذ سبتمبر 1967، نص رأي صادر عن المستشار القانوني لوزارة الخارجية أن «الاستيطان المدني في الأراضي الخاضعة للإدارة يتعارض مع الأحكام الصريحة لاتفاقية جينيف الرابعة».
وبعد أسبوع واحد من تسليم ذلك الرأي إلى رئيس الوزراء ليفي أشكول، طلب الرجل من مجلسه الوزاري الموافقة على مستوطنة يهودية في الضفة الغربية. وتلك كانت الحكومة الثالثة عشرة في إسرائيل. واليوم، تحكم الحكومة السابعة والثلاثون. وقد قامت كل حكومة في ما بين الحكومتين بسرقة أراض فلسطينية لتوسيع هيمنة إسرائيل. وعلى مدار كل تلك السنين عزفت المحكمة العليا عن الحكم بشرعية المستوطنات.
ليس هذا بالاحتلال المؤقت، ولا الجيش هو الذي يقوم على إدارته النهائية. فوزارة النقل الإسرائيلية المدنية هي السلطة المشرفة على إقامة الطرق في الضفة الغربية، والشرطة المدنية الإسرائيلية هي التي تصدر تذاكر المرور على هذه الطرق. وهيئة الكهرباء الإسرائيلية هي أكبر موفر للطاقة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. والبنية الأساسية المائية في إسرائيل والمستوطنات توفرها شركة المياه الوطنية في إسرائيل المعروفة بشركة ميكوروت. ولجنة الانتخابات المركزية في إسرائيل هي التي تشرف على تصويت جميع المواطنين الإسرائيليين بمن فيهم المستوطنون في الأرض المحتلة.
وللجيش بطبيعة الحال بعض السلطات. فهو يحمي المستوطنين الإسرائيليين. ويحرس نقاط التفتيش، ويغير على المنازل الفلسطينية، ويدير المحاكم العسكرية التي لا يمثل أمامها غير الفلسطينيين. لكن الجيش في النهاية يأتمر بأوامر قادة إسرائيل المدنيين. والقانون الإسرائيلي ينص أن «الجيش خاضع لسلطة الحكومة».
فعندما يدعو ساسة اليمين المتطرف من أمثال سموتريتش إلى تدمير بلدات فلسطينية أو يناصرون القيام بتغييرات «كبرى» في بيروقراطية الاحتلال الإسرائيلي، فلا بد من فهم هذه التصريحات على حقيقتها وهي أنها جزء من جدال إسرائيلي حول «كيفية» إخضاع الفلسطينيين وطردهم من ممتلكاتهم لا حول ما إذا كان ينبغي القيام بذلك من عدمه. وبالمثل، لم يكن تعديل قوانين جيم كرو في الولايات المتحدة هو الذي استحدث الفصل العنصري، كما لم يكن التعديل العرضي لقوانين الفصل العنصري في جنوب أفريقيا هو الذي كرَّس سيادة الأفريكانيين.
في واقع الدولة الواحدة الذي تعيشه (إسرائيل-فلسطين)، نجد أن نصف السكان يهود، ونصفهم فلسطينيون. وفي حين ينعم الإسرائيليون اليهود بجميع حقوقهم بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه، تحافظ إسرائيل على هيراركية للرعايا مفروضة على الفلسطينيين، وهذه الهيراركية قائمة تحديدا على المكان الذي يعيش فيه المرء. فالمواطنون الفلسطينيون داخل إسرائيل مواطنون من الدرجة الثانية بموجب القانون. وهم في القدس الشرقية المحتلة «مقيمون دائمون». وفي بقية الأراضي المحتلة، هم رعايا بلا دولة. وما من موضع في كامل المنطقة الخاضعة لسيطرة إسرائيل من النهر إلى البحر يعثر فيه المرء على مساواة بين اليهود والفلسطينيين. ولنظام الحكم هذا اسم معروف، هو الأبارتيد.
في عام 1973، كان سناتور شاب يدعى جو بايدن قد أبدى انزعاجه من أن إسرائيل في ظل قيادة حزب العمل «تزحف إلى الضم». وقد تحقق الزحف. وقبل عقد من الزمن قال وزير الخارجية جون كيري لجماعة من زعماء العالم إن الصراع إذا بقي دونما حل فسوف تكون إسرائيل «دولة أبارتيد». وهي كذلك الآن.
يميل الليبراليون الإسرائيليون والدبلوماسيون الغربيون إلى الاعتقاد بوجود مسارين للتقدم: إما دولة واحدة مزدوجة القومية، وإما حل الدولتين. لكن هناك مسار ثالث هو التطهير العرقي من خلال طرد الفلسطينيين. ويبدو أن هذا هو المسار الذي يقع عليه اختيار إسرائيل. فهل ستفعل الولايات المتحدة وحلفاؤها شيئا حيال ذلك؟
هاجاي إلعاد مقيم في القدس وهو مؤسس لمنظمة بيتسليم وجمعية الحقوق المدنية في إسرائيل ومديرهما التنفيذي
خدمة نيويورك تايمز