قرار مجلس الأمن لوقف القتال في غزة ... يتبخر !!
مما لا شك فيه أن التصفيق الذي صدر من الوفود الممثلة للدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة -باستثناء الوفد الأمريكي بالطبع- وذلك يوم الاثنين الماضي الموافق 25 مارس الماضي بمناسبة صدور قرار مجلس الأمن رقم 2728 بشأن الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة بشكل فوري لأسباب إنسانية، كان لافتا ومعبرا عن الشعور بالرضا وربما النصر -على الطريقة العربية- خاصة بعد الجهود والإخفاقات السابقة لتمرير أربعة مشروعات قرارات مختلفة بشكل أو بآخر بسبب إسقاطها بفعل الفيتو الأمريكي نظرا لاعتراض واشنطن من حيث المبدأ وعلى أعلى المستويات على وقف القتال، والإصرار على استمرار الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين أو غض النظر عنها على الأقل حتى الآن والإصرار أيضا على إدانة حركة حماس، والدفاع السافر عن أعمال إسرائيل الهمجية ضد الفلسطينيين واستخدامها المفرط للقوة وتدميرها لغزة ومحاولتها طرد الفلسطينيين وتهجيرهم من منازلهم بزعم حقها -إسرائيل- في الدفاع عن النفس وكأن الفلسطينيين لا يتمتعون بالحق نفسه الذي يقره القانون الدولي لكل الشعوب وإن من حقهم الدفاع عن أنفسهم وتحرير أراضيهم المحتلة أسوة بالشعوب الأخرى، فهل كان إصدار مشروع القرار الذي تقدمت به موزمبيق والدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن غاية في حد ذاته؟ وهل صمم لكي يكون مخرجا مصنوعا كجزء من تجاوز مأزق الخلاف العلني بين بايدن ونتانياهو وعلى نحو يحقق مكاسب لإسرائيل في النهاية ولا يحقق الغرض الذي دار الحديث عنه طويلا ولا يزال، وهو وقف القتال بعد المجازر البشعة التي تجاوز عدد ضحاياها ثلاثة وثلاثين ألف قتيل وأكثر من أربعة وسبعين ألف جريح وبأسلحة أمريكية وغربية؟ على أية حال فإن الترحيب الدولي واسع النطاق بصدور القرار في حد ذاته بما في ذلك من جانب حماس والفلسطينيين والعرب وأصدقائهم أكد على أهمية وضرورة الوقف الفوري للقتال وإسكات آلة القتل الإسرائيلية في غزة ووقف المعاناة الفلسطينية التي يهتز لها ضمير العالم بشدة. ولكن المفارقة رغم ذلك أن القتال لم يتوقف وأنه لم تظهر بوادر للعمل الجاد لوقف إراقة الدماء الفلسطينية، بل إن محاولات تجاوز الخلاف بين نتانياهو وبايدن والتي بدأت بالفعل تتم وكالعادة على حساب الفلسطينيين حيث تمد واشنطن إسرائيل بأحدث الأسلحة وتحاول استرضاءها بسبل اعتادت عليها إسرائيل ومنها بالتأكيد قرار مجلس الأمن الصادر الأسبوع الماضي وذلك من خلال قطع الطريق على محاولات تنفيذ القرار أو الأمل في وقف القتال خارج العباءة الأمريكية بأي شكل. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها أولا، أنه إذا كانت الدبلوماسية في جانب منها هي القدرة على صياغة المواقف وبناء التوافقات بين المواقف المتباعدة بشكل أو بآخر للأطراف المختلفة، فإنه من الخطأ الشديد النظر إلى قرارات المنظمات والهيئات الدولية بسطحية أو بتسرع لأنها تأخذ في العادة وقتا وتدقيقا وجهدا في صياغتها من جانب خبراء في اللغة والقانون الدولي وليس فيها عادة ما يمكن إسقاطه أو التعامل معه باسْتخفاف؛ لأن الأمر يتصل في النهاية بمصالح دول وشعوب. ولذا فإنه لم يكن مصادفة على أي نحو أن تحرص الخارجية الأمريكية على المسارعة فور صدور القرار وامتناعها عن التصويت على إيضاح موقفها سواء حيال إسرائيل أو حيال القرار ومنطوقه وحيال تنفيذه ووقف إطلاق النار في غزة وذلك كله رغبة في احتواء الخلاف العلني بين نتانياهو وبايدن من ناحية، وتمرير رسالة إلى المجتمع الدولي تفيد التأكيد على عدم إلزامية القرار بمنطوقه الصادر به من وجهة نظر واشنطن، ثم احتواء جزء كبير من غضب نتانياهو الذي كان قد طالب واشنطن باستخدام الفيتو لإسقاط مشروع القرار كما حدث في المرات الثلاث السابقة، في الآونة الأخيرة منذ بداية القتال بل وهدد بتصعيد الخلاف معها من ناحية ثانية.. ونظرا لأنه من المرجح أن نتانياهو أدار الخلاف العلني مع بايدن على ضوء خبرته في الخلافات السابقة مع كل من كلينتون عام 1996 ومع أوباما عام 2016 وسعيه لتحسين صورته في الداخل الإسرائيلي والحفاظ على تماسك تحالفه الحكومي ومن شأن ذلك أن يفسر في الواقع تشدد تصريحاته مع بايدن والحفظ في الوقت ذاته على حدود اللياقة في التعامل معه كرئيس للولايات المتحدة باعتبارها أكبر صديق لإسرائيل وحامية لها في الأمم المتحدة وفي المنظمات التابعة لها. ومن الواضح أن تكتيك نتانياهو نجح بالفعل في زيادة شعبيته المتدنية بنسبة بلغت 4% في آخر استطلاعات أجريت قبل عدة أيام. تجدر الإشارة إلى أن قناعة نتانياهو بأسلوب تعامله مع رؤساء أمريكا جعلته يصرح خلال الأزمة الأخيرة بأنه «لن تستطيع أن تكون رئيسا لوزراء إسرائيل ما لم تستطع أن تقول لا لرئيس الولايات المتحدة» غير أن ذلك لا يقلل في الواقع من حجم وتعدد المشكلات والتحديات التي يواجهها نتانياهو في حكومته وفي إسرائيل منذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر الماضي.
ثانيا، أنه في الوقت الذي كشفت فيه الأزمة بين نتانياهو وبايدن هشاشة الموقف الإسرائيلي أمام أبسط الضغوط الأمريكية في الأمم المتحدة وخارجها، وهو ما عكسته التصريحات الإسرائيلية التي حرصت على التراجع سريعا خاصة بعد تأكيد واشنطن على عدم إلزامية تنفيذ القرار من وجهة نظرها، وهو ما يجعل القرار ليس فقط ضعيفا بل يفقده الكثير من قيمته رغم أنه قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، وبرغم القيمة الرمزية لصدور القرار للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في غزة برغم ما انطوى عليه ذلك من تهديد للسلم والأمن الدوليين ومن انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني، فإن التلاعب في صياغة القرار حدت من قيمته بالنسبة للنقطة المتعلقة بتنفيذ القرار وإلزاميته لإسرائيل، وهو ما ساعد في الواقع في تضاؤل الاهتمام بالقرار سريعا بل والمطالبة الروسية بتعديل القرار قبل أن يجف المداد الذي كتب به وبرغم الجدل حول مدى إلزامية القرار والانحياز إلى وجهة النظر الأمريكية التي تناصر إسرائيل، والتشكك في القدرة على تحديها من جانب المجتمع الدولي لأسباب كثيرة، فإن القرار لم يخلُ من جوانب مفيدة لحماس مثل خلوه من إدانتها ودعوته إلى أن وقف إطلاق النار «يجب أن يكون فوريا وتحترمه جميع الأطراف في شهر رمضان ما يفضي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار» وقد أدت هذه الصياغة والأسلوب غير المباشر لضمان تمرير مشروع القرار وعدم استخدام واشنطن لحق الفيتو إلى خلو القرار من موقف حازم وقوي لوقف فوري لإطلاق النار وهو ما حاولت روسيا تداركه بعد صدور القرار ولكن كان ذلك مجرد تسجيل موقف دبلوماسي في إطار التنافس بين روسيا وأمريكا ومن ثم اقتصرت قيمة القرار عمليا على بعد رمزي انتصر لحق حماس والفلسطينيين في العمل على تحرير أرضهم المحتلة وترك الفرصة مفتوحة أمام إسرائيل لمواصلة عدوانها وهمجيتها في غزة في الفترة القادمة بكل ما يعنيه ذلك من نتائج ومن عدم القدرة على وقف القتال إلا عبر البوابة الأمريكية وبرضا بايدن نفسه وربما إشرافه وتنسيقه مع نتانياهو حيث إن الخلاف بينهما كان أقرب إلى زوبعة في فنجان انتهت سريعا وكان الثمن هو قرار مجلس الأمن وإفراغه من مضمونه الذي كان مأمولا.
ثالثا، إن مما له دلالة عميقة أنه في حين أكدت واشنطن على أن امتناعها عن التصويت على مشروع القرار «لا يعني حدوث تغير في سياستها حيال إسرائيل وأنها تواصل الوقوف إلى جانبها» فإن نتانياهو من جانبه حرص على التأكيد على أن منعه الوفد الإسرائيلي الذي كان مقررا ذهابه إلى واشنطن إنما كان «رسالة إلى حماس تفيد عدم رضوخه للضغوط الخارجية ولم يربطه أبدًا بالخلاف مع بايدن، كما أن الاتصالات استمرت بين الجانبين في واشنطن خلال الأزمة وأعاد نتانياهو جدولة زيارة الوفد الإسرائيلي إلى أمريكا خاصة أن واشنطن قامت من جانبها بإرسال وفد إلى إسرائيل، والأكثر من ذلك أن الترضية الأمريكية لنتانياهو شملت الموافقة على تزويد إسرائيل بطائرات مقاتلة طراز أف 35 (25 مقاتلة قيمتها 2.5 مليار دولار) إلى جانب قنابل متطورة زنة 900 كيلوجرام من طراز (إم كيه 82 وإم كيه 84) التي أوقف الغرب استخدامها لخطورتها على المدنيين، يضاف إلى ذلك أن واشنطن ستشارك في وضع خطة اجتياح رفح بزعم محاولة التخفيف من الأضرار على المدنيين حسبما تقول. وفي ضوء ذلك فإن القرار الذي ضربت به أمريكا وإسرائيل عرض الحائط حمل فوائد عملية كثيرة لإسرائيل وسمح لها بالاستمرار في الحرب ومنح حماس والفلسطينيين تعاطفا نظريا قد يمكن البناء عليه إذا تغيرت الظروف؛ ولذا تبخر القرار في الواقع بأسرع مما كان متوقعا.