قراءة في البيان الأخير لصندوق النقد الدولي عن عمان
نشر صندوق النقد الدولي في الأسبوع الماضي على موقعه في شبكة الانترنت بيانا صحفيا صادرا عن المجلس التنفيذي للصندوق، وذلك في إطار ما يسمى "مشاورات المادة الرابعة 1عن سلطنة عمان". هذا البيان يشبه من حيث مضمونه البيانات التي يصدرها الصندوق دوريا عن الوضع المالي والاقتصادي لبعض الدول، وهو يبنى على تقرير تقدمه بعثة من خبراء الصندوق إلى مجلسه التنفيذي بعد كل زيارة تقوم بها إلى الدولة المعنية لتقييم الوضع المالي فيها. وقد نشرت وزارة المالية والبنك المركزي ملخصاً لبيان الصندوق في شكل نقاط عبر تطبيق تويتر في الشبكة العالمية. وحيث أن البيان الذي نشره الصندوق على موقعه أوسع وأكثر تفصيلا مما نشرته الوزارة والبنك المركزي عبر تويتر، فإنه من المفيد عرض ما جاء فيه كما ورد في موقع الصندوق على الشبكة. وليس الهدف هنا إعادة نشر البيان كاملا، فذلك لن يفيد كثيراً، ولكن الهدف هو التعليق على بعض النقاط ولإبداء الرأي حول بعض ما جاء فيه بالقدر الذي يتسع له المقال.
أشاد البيان في أكثر من موضع بالجهود التي بذلتها سلطنة عمان لمواجهة الآثار المالية التي أدت إليها جائحة كوفيد-19، لا سيما من حيث توفير اللقاحات اللازمة للوقاية منه، الأمر الذي خفف من قيود التباعد الاجتماعي وأعطى بالتالي زخماً للتعافي الاقتصادي الذي يشهده الاقتصاد منذ العام الماضي. وقد أشار الصندوق في بيانه إلى أن الاقتصاد العماني قد نما في عام 2021 بمعدل 3% بعد أن كان نموه سالبا في عام 2020 إلى نسبة -3.2%، ويتوقع الصندوق أن يواصل الاقتصاد العماني تعافيه ليصل إلى معدل نمو نسبته 4.3% بنهاية العام الحالي 2022. أما التضخم فقد وصل معدله في العام الحالي إلى 3%، وهو معدل أدنى مما هو عليه التضخم في الاقتصاد العالمي. ويرى الصندوق في بيانه أن الأزمة الأوكرانية وما يرافقها من ارتفاع في أسعار الغذاء والطاقة واضطراب في سلاسل الإمداد لم تؤثر كثيرا على معدل التضخم في عُمان. لكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن المحللين الاقتصاديين وعامة القطاع العائلي في عمان، خاصة من يتعاملون بشكل يومي مع حالة الأسواق ووضع أسعار المواد الغذائية فيها، هو ما إذا كانت السلة التي يتم حساب مؤشر قياس أسعار المستهلكين على أساسها تعكس بشكل دقيق نسبة التضخم في عمان، أم أن أوزان السلع والخدمات التي تتكون منها السلة تحتاج إلى مراجعة!
كذلك أشاد البيان بوضع الأرصدة المالية والخارجية لعمان، واصفاً ذلك بالتحسن الهائل الذي ذكر أنه تحقق بفضل ارتفاع أسعار الهيدروكربونات وجهود الضبط المالي التي قامت بها الحكومة. وقد نتج عن ذلك تراجع مديونية الحكومة في عام 2021 إلى ما نسبته 69% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوقع الصندوق في بيانه إلى أن تصل تلك النسبة إلى 44%. غير أن التقرير حذر من أن أجواء عدم اليقين لا تزال تلوح في الأفق، ومخاطر التطورات السلبية في الاقتصاد العالمي ما تزال مهيمنة في المدى القصير. ولم يشر البيان إلى النسبة التي يجب أن تصل إليها المديونية العامة من الناتج المحلي الإجمالي ليصبح الوضع إيجابيا وقابلا للتوسع في الإنفاق التنموي الذي يرى الكثير من المحللين وأصحاب الأعمال أنه أمر لا بد منه لتحفيز النمو الاقتصادي، بما يؤدي إلى التنويع وإيجاد فرص عمل جديدة. ومن غير الواضح ما إذا كان الصندوق يرمي من وراء تحذيره من عدم اليقين في الاقتصاد العالمي توقعه أن تعود نسبة الدين العام في عمان إلى الارتفاع، خاصة في حال استمر متوسط سعر النفط أقل عما كان عليه مع بداية السنة ولم يكن بالإمكان التعويض عن الانخفاض في عوائد النفط والغاز من مصادر أخرى. ومن بين ما جاء في التقرير أيضاً الإشادة بأداء الجهاز المصرفي، مشيرا كذلك إلى أن ربط سعر صرف الريال العماني لا يزال خيارا ملائما، لأنه ساعد على خفض معدلات التضخم واستقرارها، لكن البيان أشار في ذات الوقت إلى أن نمو الائتمان المقدم للقطاع الخاص لا يزال ضعيفا. هذه النقطة الأخيرة يجب التوقف عندها لمعرفة ما إذا كان سبب ذلك الضعف عدم إقبال القطاع الخاص على الاقتراض لمشاريع كبيرة بسبب صغر ومحدودية الفرص الاستثمارية، أم هو بسبب عدم المرونة في النظام المصرفي والقيود والشروط التي تطلبها البنوك لتقديم القروض أو فتح الحسابات والاعتمادات، وهي أمور طالما اشتكى منها بعض المستثمرين وأصحاب الأعمال.
وحول توقعات وضع الاقتصاد العالمي وأثره على الاقتصاد المحلي يقول البيان إن أجواء عدم اليقين لا تزال تخيم على الآفاق، إضافة إلى هيمنة مخاطر الجوانب السلبية على المدى القصير. أما على الجانب الإيجابي من ذلك فيذكر التقرير إن عمان قد تحقق ما وصفه بعوائد هيدروكربونية تفوق التوقعات، إلا أنه لم يشر إلى الكيفية أو أوجه الصرف التي ينبغي أن تستخدم فيها تلك العوائد المالية الكبيرة المتوقعة. وأشاد البيان ضمناً بما أسماه التصحيحات الهائلة في مسار المالية، الأمر الذي قال إنه ساعد في زيادة الانفاق الاجتماعي وتحقيق فوائض ضخمة بسبب عوائد النفط. ومما يلفت الانتباه كذلك في بيان الصندوق أنه أكد على أهمية زيادة المصروفات الرأسمالية، في حين أنه في نفس الوقت يؤكد على ما أسماه الحاجة لتعزيز الاستدامة المالية ولإصلاح شبكة الأمان الاجتماعي. ويفهم من البيان أن تأكيد الصندوق على الحاجة إلى زيادة المصروفات الرأسمالية هو من أجل تعزيز النمو الاقتصادي، وهو ما ينادي به المستثمرين ورواد الأعمال، كما أنه في نفس الوقت يؤدي إلى تنويع وزيادة الإيرادات الحكومية. ومن الإشارات المهمة الواردة في البيان أيضاً التأكيد على أن الهدف من الإصلاحات الهيكلية هو تحقيق نمو أكثر تنوعا واستدامة واحتواء للجميع، أي أن يكون النمو شاملا لكل فئات المجتمع ومناطق البلاد وقطاعات الاقتصاد. هذه النقطة تؤكد على أهمية أن تعطي الخطط والسياسيات الاقتصادية والمالية مزيدا من العناية لتلك العناصر الثلاثة مجتمعة. حيث أن الإصلاحات الهيكلية بشكل عام لا تعني تخفيض الانفاق في حد ذاته، وإنما الأهم تحديد مجالات وأولويات الصرف، خاصة في الاقتصادات التي تعاني من ضعف في النمو لسنوات عديدة، ومن تراكم مستمر في أعداد العاطلين أو الباحثين عن عمل.
وهناك نقطة أخرى ملفتة في بيان الصندوق، وهي إشارته إلى تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، حيث قال إنها "ستساعد في تسهيل الإصلاحات اللازمة لزيادة مرونة سوق العمل". ومن غير الواضح ما إذا كان الصندوق يهدف في مرئياته واستشاراته إلى زيادة مرونة سوق العمل أم إلى خلق فرص عمل جديدة من خلال نمو مستدام! وفي رأيي أن مرونة سوق العمل لا تكفي لتوليد فرص عمل لآلاف العاطلين، إذن إن مرونة سوق العمل تسهل فقط الدخول والخروج إلى وظائف موجودة ومحدودة في السوق، ليتنافس على كل واحدة منها المئات، إن لم يكن الآلاف من الباحثين عن عمل. إن جعل الاقتصاد يخلق فرص عمل جديدة وبشكل مستمر ومستدام هو بيت القصيد ومربط الفرس في أي خطة أو سياسة تنموية، وهي الشغل الشاغل للجميع سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى الأسر والأفراد، ومرونة سوق العمل كما نفهما من بيان الصندوق لا تؤدي بالضرورة إلى إيجاد فرص عمل جديدة، بقدر ما تعني تسهيل تدوير الفرص الموجود بين الباحثين عن عمل. وبالإضافة إلى ذلك فإن مصطلح "مرونة سوق العمل" قد يُفهم منه تخفيض مستوى الأجور أو تسهيل فصل العمال من وظائفهم أو تسهيل استقدام العمالة الوافدة في كل القطاعات، وذلك أمر له تبعات خطيرة.
بشكل عام يمكن القول إن بيان المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي بيان إيجابي، سواء من حيث إشادته بجهود الحكومة في تطبيق الإصلاح الهيكلي، أو من حيث بعض الإشارات إلى ما ينبغي القيام به من أجل تنويع الاقتصاد واستدامته وشموله. ويمكن الاستفادة من البيان في مجالات شتى، سواء على مستوى التخطيط والسياسات والتنفيذ، أو على مستوى المستثمرين ورواد الأعمال الذين عادة ما يكونون في وضع ترقب دائم، مشدودين إلى معرفة أوضاع الأسواق ومستقبلها.
• د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية