قَــدَرُ سـوريا والعـرب واحـدٌ

15 يناير 2025
15 يناير 2025

حين سقط نظـام الأسد من تلقاءٍ مدفوعٍ بصفـقةٍ دوليّة، ومن غير حربٍ كالتي دارت رحاها منذ عام 2012، سقطت معه سوريا فـي قـبضة مَن تواطأوا على إنجاب تلك الصّـفـقة (التي حـيّـدَتِ الجيش من المواجهة ليجد النّظامُ نفـسَــه من غيـر شـوكة)، وعلى أخْـذِ البلد إلى مصيرٍ صُـنِـع له نموذُجُـه المصـغَّـر من خارجٍ ويُـبَاشَـر اليوم فـي استـيلاده الماديّ. وليس يَـخفى أنّ رحيل النّـظام السّابق اقـتـرن برحيـل حليفـيْـه الرّئيـسيْـن عـن البـلاد؛ وقـد قاتـلا طويلًا إلى جانب جيشه، وكان لدورهما العسكريّ الأثـرُ الكبـير فـي تماسكـه أمام خصومه.

وهـذا يعني أنّ ذينك الحليـفـيْـن (روسيا وإيـران) لن يكون لهما مكانٌ فـي عمليّـة استيلاد «سوريا الجديدة» التي تُجريها قوى الصّفـقة الدّوليّـة- الإقـليميّـة على المنوال الذي تقضي به مصالحُها النّـقيضُ من المصالح الرّوسيّـة والإيـرانـيّـة فـي الإقـليم. هكـذا لن يبقى فـي صورة ما يجري سوى الفاعلين الثّـلاثة الكبار: الولايات المتّـحدة الأمريكيّـة وتركيا والكيان المحتـلّ؛ فهُـم وحدهم مَـن يُمسكون بالأزِمّـة فـي بلاد الشّـام ويتحكّمـون فـي صُـنع مصيرها: دولـةً وجغرافـيا وارتباطـاتٍ... وسيادة.

تجتمع القوى الثّـلاث المشار إليها على رعاية قـوى المعارضة - التي سبق أن أوْصَلتها بصفـقتها إلى السّلطة - ودعْـمِ نظامها السّياسيّ الجديد بما فـي ذلك استحصال الشّرعيّـة الدّوليّـة له. تفعل ذلك بمعزلٍ عمّـا لدى كـلّ دولـةٍ منها من مساحةِ نفـوذٍ فـي أوساط قوى النّظام القائم اليوم ومن حصّـةٍ لها فـي سلطته. لكنّها فـي غير هذا الذي تجتمع عليه تختلف فـي البواقي: تختلف فـي مناطق سيطرتها العسكريّـة الاحتلاليّـة فـي شمال سوريا، المتـقاسَـم بين تركيـا وأمريكا، وفـي جنوبها وشرقها المحتلّـة أجـزاءٌ منهما من قِـبَـل دولة الاحتلال؛ وتختلف فـي شأن مستقـبل سوريا السّياسيّ ووحدة كيانها وضمنها علاقـة كـلٍّ منها بالحركة الكرديّـة فـي مناطق شرق الفرات؛ بين مؤيّـدٍ لها حادبٍ عليها (الولايات المتّحدة الأمريكيّـة ومن ورائها دولة الاحتلال)، ومحاربٍ لها بقسوةٍ مخافة نجاحها فـي إقامة جيبٍ سياسيّ مستقـلّ فـي الشّمال السّـوريّ على حدودها الجنوبيّـة (تركيـا).

ربّما تنجح الإدارة الأمريكيّـة فـي ضبط إيقاع النّـزاع بين هـذه الدّول الثّـلاث التي تتصارع على تـقرير مصير سوريا، وإدارته على النّحو الذي لا تنـفجر فـيه تـناقضاتُـه بينها؛ وربّما قد لا تنجح فـي ذلك كُـلاًّ أو أجزاءً لهذا السّبب أو لذاك. وفـي هذه الحـال، قد تستـفحـل حالة التّـأزُّم فتـنـتهي الأمور إلى نتيجتيـن كـلتاهما مخيفـة: إمّا إلى مواجهات تدور رحاها على المسرح السّوريّ ويدفع الشّعب ثمنها معانـاة مضاعفـة لشروط الحياة والبقاء؛ أو إلى اقـتراف جريمة التّـقـسيم من خلال مـدّ كـلِّ قـوّةٍ يَـدَها إلى مناطق سيطرتها ونـفوذها وإقامـة كيـانٍ فـيها تابـعٍ لها. حينها سيكون إِعمـالُ التّـقسيم فـي سوريا -لا قـدّر اللّـه- مقـدّمـةً لِإِعماله فـي معظم المحيط العربيّ عملاً بخرائـطَ استعماريّـة جديدة أُعِـدَّت، منذ ثمانينيّات القرن العشرين، من أجل إعادة تفصيـل الكيانات العربيّـة على مقاس العصبيّـات الأهليّـة والإثنيّة القائمـة!

الغائـب الكبير فـي المشهد السّوريّ كـلِّـه، بعد الثّـامن من ديسمبـر، هو العرب الذين فاجأهم (ما خـلا دولةٌ منهم مرتبطة بتـركيا) ما حصل فـي بـلاد الشّام بأيدي غيرهم، ووضعَ دولَهم فـي مـوقعٍ دفاعيٍّ بحت هو موقع ردّ الفـعل على فعْـلِ فاعـلٍ خارجيّ بات يمسك بمصير مـركزٍ من مراكزهم! لسنا نعني بالغياب العربيّ ركونًا إلى الصّمت وعـدمَ إبداءِ موقـفٍ ممّـا يجري؛ فلـقـد تكـلَّم قسـمٌ من دُولهم مؤيِّـدًا لِمَا جرى وللعـهد الجديد؛ ومنهم مَـن بعـث وفـوداً إلى دمشق تبـلِّـغ موقـف التّأيـيـد والمبارَكَـة وتَـعِـد بالتّعاون والمساعـدة، وإنّـما نعني به غياب الدّور السّياسيّ الفاعل فـي إدارة عمليّـة بناء مستقبل سوريا. القوى الثّـلاث الماسكة لن تسمح لغيرها أن يقاسمها ما حصلت عليه هي وقواها المسلّحة، وأقصى ما تَـقْبله من العرب أن يساهموا فـي إعادة إعمار سوريا ضمن برنامجٍ تضعه هي -ونظامُها فـي دمشق- لاستثمارات دولهم. وهـذا يعني أنّـه لن يُـسْـمَـح بأن يكون لهم دورٌ فـي أيّ هندسةٍ سياسيّـة قادمة للنّظام السّياسيّ فـي سوريا وشكله الدّستوريّ وولائه الإقـليميّ والدّوليّ إلاّ إذا نجحوا فـي فرض دورٍ مركـزيّ لهم.

مـن الواضح، إذن، أنّ تغـيـير النّظام فـي سوريا ليس محصور النّتائج فـي الحيّز السّـوريّ وفـي توازناته الدّاخليّة فـقطّ وإنّما هو تغـيـيرٌ لشبكة خيوطِ ارتباط سوريا بمحيطها العربيّ وسعْيٌ نحو إبعـادها من دائـرة انـتمائها وولائـها الذي عُـرِفت بـه وعُرِف بها طويلًا. إنّـه ليس انـقـلابًا أمريكيًّا - تركيًّا - «إسرائيليًّا» على نظامٍ عربيّ بل انقلابٌ على النّظام العربيّ برمّـته ومحاولةٌ لانتـزاع سوريا من قـلبه! وهـذا، بلا مِـراء، تَـحَـدٍّ وجوديٌّ للعرب جميعًا وخاصّةً للمحيط العربيّ المباشر لسوريا (أقطار الخليج ومصرَ والأردن ولبنان). إنّه يرتّب على الدّول العربيّـة مسؤوليّـة السّعي إلى أخذ مصير سوريا بيدها من اللاّعبين الأجانب؛ لأنّ ذلك - فـي حساب السّياسة والمستـقـبل - أَخْـذٌ لمصيـرِها كـدولٍ بنـفـسها. إنّ قـدرَ سوريا وأمّـتها العربـيّـة واحد: لا مهْـرب لأحـدٍ منه، وعروبـتُها أضـمنُ لصـوْن المصير القـوميّ الجماعـيّ.