قبل تزييفه.. طوفان الأقصى في ميزان التاريخ
عندما يطالع القارئ هذا المقال قد تكون حماس وقعت على اتفاق الهدنة المعروض عليها «المهندس» أمريكيا وقد لا تكون. وقد تكون حماس قد اضطرت إلى تقديم تنازلات مهمة وقد تآكل عليها العرب والروم تآكل الآكلة على قصعتها وفاوضوها ٧ أشهر تحت النار وعلى حافة التجويع. وقد تكون صمدت وظفرت بمكاسب مهمة لحاضنتها الشعبية الغزاوية والفلسطينية. أيا كانت النتيجة وقبل أن يقوم العم سام وربيبته بتزييف التاريخ مرة أخرى أمام أعيننا، نحن شهود الحدث، كما فعلوا في نصر أكتوبر العظيم ١٩٧٣ وحولوها في مناهج التعليم وكتب التاريخ وسرديات الإعلام المهيمن إلى هزيمة عربية نقول بملءِ الفم أن طوفان الأقصى كان تحولا تاريخيا وكان انتصارا استراتيجيا.
في تاريخ الشرق الأوسط الحديث يأتي حدث أو هول كبير يحول تراكمات ويلخص تفاعلات تستمر عقودا ليصبح تحولا تاريخيا يصبغ العالم بصبغته وينتقل من أفقه المحلي والإقليمي إلى أفق دولي ومن أفقه الوطني أو القومي لأفق إنساني.. هذا هو حدث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ كما السادس من أكتوبر ١٩٧٣، وكحرب السويس ١٩٥٦.
سيسجل التاريخ أن طوفان الأقصى أعطى العلامة الكبرى وليست الصغرى على هزيمة المشروع الإسرائيلي كمشروع استعماري استيطاني إحلالي وعنصري يمثل رأس حربة لمصالح المركز الرأسمالي الغربي في المنطقة، وممزق لعالم عربي يتحكم في أهم ثروات الطاقة وأهم ممرات الملاحة والمواصلات بريا وبحريا وجويا.
سيسجل التاريخ سقوط القوائم الثلاث للمشروع الذي قام على المذابح والتهجير القسري لشعب أصلي من أرضه. المشروع الذي خلقه الاستعمار القديم وورثه الاستعمار الحديث وهي سردية الضحية، والملاذ الآمن ليهود العالم، وقوة الردع التي لا تقهر.
بمفرمة اللحم البشرية بالأسلحة الأمريكية الجارية في غزة التي قتلت وأصابت وتسببت في فقد نحو مائة وخمسين ألف إنسان، معظمهم من سقطت تماما سردية الضحية التي هيمنت بها إسرائيل على العالم سبعة عقود ونصف بمساعدة الإعلام والأكاديميا الغربية (انضم إليهم الآن متصهينون عرب) سقطت سردية الضحية وباتت إسرائيل اليوم هي أكبر قاتل للأطفال والنساء والصحفيين والأطباء وعمال الإغاثة في التاريخ الحديث.
لم تعد أيضا إسرائيل الملاذ الآمن لأي يهودي في العالم بعد أن نقلت المقاومة الفلسطينية العظيمة الحرب على أرضها لأول مرة. لقد اخترقت المقاومة الفلسطينية غلاف غزة واخترقت وحاصرت مستعمراتها «كيبوتزاتها» الاستيطانية وحولت سكانها إلى نازحين ولاجئين، لأول مرة، وبعد أن دفعت آلافا من الإسرائيليين باعتراف يديعوت أحرونوت الصحيفة اليمينية إلى الهجرة العكسية وإلى الفرار من إسرائيل وشراء منازل في أوروبا وغيرها.
ثم سقط القائم الثالث والأهم الذي يقف عليه المشروع المعادي للجغرافيا وللتاريخ وهو قوة الردع التي بنيت على إخافة كل سكان الشرق الأوسط من ذراع إسرائيل الطويلة التي تصل لكل بيت ولكل مقاوم ولكل قائد فلسطيني أو عربي سياسي أو عسكري يتحداها.
يذكرنا سجاد صفائي في الفورين بولسي قبل أيام بسقوط مقولات أهم جنرالات إسرائيل، من موشي ديان الذي قال علينا «أن نجعل أهل المنطقة يتعاملون معنا بوصفنا كلبا مسعورا يستطيع عقرهم في أي وقت» إلى إرييل شارون الذي قال إن (الردع) هو سلاح إسرائيل الأهم والأخطر. الجيش الإسرائيلي وأجهزة استخباراته اللذان نسجت حولهما الأساطير كرادع لا يقهر سقطا أمام مجموعة من المقاتلين بأسلحة -تعتبر بدائية- إذا قورنت بترسانة إسرائيل الأمريكية. لكن التآكل الأكبر كان في فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أي هدف من أهدافه في الحرب وهي سحق حماس واسترداد الأسرى ونزع سلاح المقاومة، بل وتكبد هذا الجيش لخسائر بشرية هائلة تتخطي الـ١٢ ألف قتيل وجريح حسب تقديرات مما يدمر بنظر محللين أسطورة الجيش البري وسلاح المدرعات الإسرائيلي التي ملأت كتب التاريخ العسكري!!
لقد تآكل الردع إقليميا بعد أن وصلت صواريخ المقاومة اللبنانية إلى عكا ووصلت صواريخ إيران البعيدة نحو ٢٠٠٠ كلم إلى قاعدتها الجوية الأهم في الجنوب وأصابتها. تآكلت قوة الردع الجوية التي تباهت بها إسرائيل وفتحت التكنولوجيا الحديثة التي تسربت ليد الفقراء والمقاومين -رغما عن الغرب - وبمسيرات وصواريخ رخيصة وكثير منها محلي الصنع فتحت سماوات إسرائيل ومدنها ومراكز صناعتها المتقدمة أمام الجميع من الحوثيين في اليمن إلي الفصائل في سوريا والعراق إلى مقاومة حزب الله ثم عودة إلى أهل القضية في غزة ومخيمات الضفة الغربية المقاومة في جنين ونابلس وطولكرم.. رغم حصار الاحتلال ومستوطنيه والتنسيق الأمني مع رام الله.
سيسجل التاريخ أيضا تفجير طوفان الأقصى لأكبر ثورة شباب في العالم وفي الغرب خصوصا منذ ثورة الشباب نهاية الستينات في خضم حرب فيتنام هذه المرة تعاطفا مع القضية الفلسطينية. نحو مائة وخمسين جامعة ومعهدا خاصة في الولايات المتحدة وفرنسا بعضهم من أهم مراكز إنتاج النخبة وقادة المستقبل في الغرب الذين سيقودون بلادهم في السنوات الأربعين المقبلة. نحن نتحدث عن كولومبيا أهم جامعات النخبة على الساحل الشرقي وعن بيركلي أهم جامعات النخبة في الساحل الغربي وعن ماساشوستيس درة التكنولوجيا ووداي السيليكون، عن برينستون وهارفارد، عن معهد العلوم السياسية الفرنسية الذي يساهم في تخريج طبقة الحكم الباريسية. هؤلاء تحدوا القمع الشُّرَطِيّ والإداري من مينوش شفيق وغيرها الذي نزل بمستوى حرية التعبير إلى دول العالم الثالث التي تعايرها أمريكا في تقارير دورية بسرقها لحرية التعبير، وتحدوا القمع السياسي «المكارثي» للكونجرس الذي خلط بين الدين والسياسة مقتطعين ومحرفين آيات من العهد القديم والجديد من سياقها، تحدوا تزييف ساكن البيت الأبيض الذي زعم أنها مظاهرات معادية للسامية رغم وجود مئات من الطلاب والأساتذة اليهود المعادين للصهيونية على رأسها، وزعم أنها مظاهرات غير سلمية رغم أن من استخدم العنف هم أنصار إسرائيل من اليمين المسيحي الصهيوني دون رد من المتعاطفين مع فلسطين الذين اكتفوا بالغناء وإحياء تقاليد تقديم كرم أطباق المطبخ الفلسطيني على الجميع.
ثورة الطلاب والجامعات الأمريكية والغربية ليست محصورة داخل الحرم الجامعي ولكنها جزء من الحراك والحركات الاجتماعية واسعة النطاق مثل حركة «حياة السود مهمة» وحركة «حقوق الإنسان المعادية للتمييز العنصري والإثني والجندري والديني».
وهي -وهذا هو الأهم- تعبير صريح عن استمرار انهيار الثقة في النظام الديمقراطي الغربي لدى الأجيال الجديدة واللجوء المتزايد لفكرة الاحتجاج المدني في الشوارع والجامعات والتجمعات الجماهيرية بدلا من الاعتماد على صندوق الاقتراع والانتخابات كوسيلة للتغيير السلمي.
هذا الانهيار في الثقة بالنظام وفي المؤسسة السياسية تراكم تدريجي وببطء شديد في اتجاه واحد خلال العقود الأربعة الماضية، بسبب الأثر المخيف لتطبيق السياسات النيوليبرالية منذ عهد ريجان في الولايات المتحدة وتاتشر في المملكة المتحدة والذي أدى إلى تراجع القطاع السلعي الإنتاجي من صناعة وزراعة لصالح القطاع المالي. قاد ذلك إلى تركز الثروة في يد قلة لا تزيد على عشرة في المائة من السكان وإلى تزايد أعداد الفقراء والتآكل النسبي في جسم الطبقة الوسطى العريضة في البلدان الغربية ضامنة للاستقرار والرشادة السياسية.
ونجم عن ذلك امتلاك أقلية غنية ونخبوية «أوليجاركية» بتعبيرات «أفلاطون» التاريخية لمفاتيح الثروة والتأثير النافذ على السلطة السياسية وبالتالي فقد الانتظام الدوري للانتخابات العامة ونزاهتها الإجرائية حتى الآن، وتغير الحكومات والقادة قيمته، إذ سرعان ما تحول لتداول «حصري» للسلطة بين أقسام من هذه الاوليجاركية الحاكمة مهما تغير اسم الحزب أو تغير اسم القائد السياسي.
لقد التحم قسم مهم من جيل قادة المستقبل في الغرب مع الجيل الرابع أو الخامس من أولاد الفلسطينيين والعرب: مسلمين ومسيحيين الذين تربوا في الغرب، وربما يكون طوفان الأقصى هو المحرك التاريخي لكي نرى هزيمة المشروع الصهيوني فيجد قادة غربيون أن تبنيهم للمشروع الصهيوني يجلب لهم الكره وأحيانا الإرهاب من العالم الإسلامي والعربي ومن دول الجنوب عامة. ولكي نرى -أيضا، هزيمة لمشروع المجمع الصناعي العسكري الأمريكي والأطلسي والأنجلو ساكسوني عن صراع الحضارات والثقافات التي صدرت فيه- مثقفين خائنين لإنسانيتهم مثل فوكوياما وهنتنجتون. عالم ينتصر فيه مثقفون مثل تشومسكي وفلنكستاين وإيلان بابيه الذين يرون أن المشروع الكولونيالي الاستيطاني العنصري في فلسطين المحتلة بدأ نهايته التي لن تكون سريعة ولكنها محتومة في تحقيق متأخر ٣٠ سنة لنبوءة - قصيدة محمود درويش «عابرون في زمان عابر».
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري