فيسبوك و«الإعلام الجديد» !
كلما سمعت عبارة: «ضجت وسائل التواصل الاجتماعي» تحَسّسَتْ أذناي تشويشًا طالما بدا لي باستمرار معبرًا عن جملة يلفها الإيهام ولا يمكن - في تقديري - أن تعكس معيارًا يستحق ما يراد تسويقه في الأخبار للإيحاء بمصداقية ما لتلك العبارة !
إن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم هي عالم موازٍ بامتياز لواقعنا، وحين نقول عالم موازٍ فذلك يعني عالمًا افتراضيًا يجوز فيه الكثير من الخروقات غير العادية التي تقع في الكثير من عناصر ذلك العالم وكائناته.
فليس في قياس ضجيج وسائل التواصل الاجتماعي من الأحكام ما يرقى إلى حكم تصدره نتائج استطلاع مركز قياس متخصص للرأي العام مثلاً.
وبالرغم من أن المراد من سبك جملة «ضجت وسائل التواصل الاجتماعي» في الأخبار هو الإيهام بذلك، أي كمقياس للرأي العام! إلا أن المعطيات والتحديثات التي تتوفر عليها تلك الوسائط لا تدل على شيء مطابقاً لذلك في أي مقارنة دقيقة.
ذلك أن التساهل الكبير في إمكانية تسجيل حسابات كثيرة ومزيفة، في الوقت ذاته، للفرد الواحد في منصات التواصل الاجتماعي، كمنصة فيسبوك مثلاً، والتسامح مع ذلك إلى حدود لامتناهية، هو من أكبر العوائق التي تعكس هشاشة تلك الوسائط، وتدل على طبيعة فلسفتها الحقيقية التي أنشئت من أجلها كوسائط تواصلية وليست إعلامية في الحقيقة. فهناك فرق كبير بين؛ تصور تلك الوسائط على أنها وسائط إعلامية (بما يقتضيه الإعلام من معرفة وصناعة ونظام)، وبين تصورها على أنها وسائل تواصلية أي في كونها آليات لإيصال وتبادل ما بين المستخدمين على مستوى اجتماعي تفاعلي.
لكن الفوضى التي ترتبت على سهولة الحصول على الامتياز المجاني في تلك الوسائط والإيهامات التي تخلعها تقنياتها في نفوس مستخدميها الغافلين بما تتيح من إمكانيات سهلة في الاستخدام، وتعدد في طرائق التعبير، كتابةً وصورةً وصوتاً، إلى جانب حقوق أيقونات إبداء الرأي، والتعليق على الآخرين عبر التفاعل المباشر، والعديد من الميزات الأخرى، كل تلك التيسيرات التي وفرتها ثورة المعلوماتية والاتصال في المنصات المذكورة لا يمكن أن تكون معيارًا لقياس اتجاهات رأي أو ظواهر حياة لقضايا جادة لها علاقة بمعاش الناس ومستقبلهم ومصائرهم الاجتماعية والسياسية مثل الانتخابات السياسية أو غير السياسية في مختلف دول العالم.
ونظرًا للتداخل الكبير الذي يوهم كثيرين بأن تلك الوسائط والمنصات كفيسبوك وتويتر ليست فقط وسائل تواصل اجتماعي، بل كذلك يصفها بأنها منصات إعلامية، (حتى أن البعض أطلق على تلك الوسائط مصطلح «الإعلام الجديد» فإن الزخم الإيحائي الكبير والإقبال الذي لقيته وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم ساعد على الإيهام بكونها وسائط تصلح لأن تكون أجهزة رصد معيارية في قياس الرأي العام مثلاً. وللأسف أصبحت عبارة مثل عبارة: «ضجت وسائل التواصل الاجتماعي» التي تأتي في نشرات الأخبار كما لو أنها جملة دالة على معايير الأغلبية والأقلية في أذهان الكثيرين!
ولعل أبرز نموذج للتضليل الذي تم استخدامه في وسائط التواصل الاجتماعي استغلالاً لذلك الإيهام الذي يوحي بشبه بينها وبين وسائل الإعلام؛ ما جرى من تزوير لنتائج الانتخابات الأمريكية عبر تدخل شركة «كامبريدج أناليتيكا» لتزوير نتائج استطلاعات الانتخابات الأمريكية في دورة العام 2016 لصالح فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهي قضية أصبحت من أكبر قضايا الرأي العام في العالم، وترتبت عليها الكثير من الإجراءات القانونية، وجلسات التحقيق، كما تسببت في عزل بعض الوزراء في الولايات المتحدة على خلفيتها.
وإذ لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي، كمنصة فيسبوك العملاقة غامضة في مسالة الحريات، وما قد ينطوي عليه سقفها من انحراف سالب في استخدام معنى الحرية، فإن إمكانية الإيهام لا تزال موجودة، لأن استخدامات مئات الملايين من متصفحي منصة فيسبوك جعل منها منصة مستقطبة للعديد من مواد الإعلان التي اضطرت معها الصحف والمواقع الإلكترونية والعديد من الجهات الإعلامية إلى اعتماد صفحات لها في موقع فيسبوك لتنافس في هذا المجال التواصلي الجبار.
أكثر من ذلك؛ اليوم، أصبحت هذه المنصات التواصلية تستقطب بلايين المستخدمين مع إتاحة فضاء مجاني وحر لقابلية بث كل المحتويات الشخصية والرسمية للبشر ودون سقف محدود للحرية، ما أدى في النهاية إلى أن تكون تلك المنصات عوالم افتراضية موازية لعالمنا الواقعي ومؤثرة فيه بقدر كبير ومحيَّر !