فيسبوك.. سردية التضامن الوهمي!
لا يحتاج المرء لإثبات أن ردود فعل الإنسان على أي تجربة مثيرة ومغرية على نحو شخصي، ستجعل ذلك الإنسان في وضع المتلهف باستمرار؛ لمتابعة ردود الفعل المتصلة به وبما يفعله. ذلك أن كل مثير وعجيب يتقاطع مع ذات الإنسان، ويكشف لها باستمرار ردود فعل مستمرة لما تكتبه تلك الذات - كيفما اتفقت الكتابة - أو حتى ما تفعله عشوائيًا كالصراخ العبثي مثلًا، لاسيما في فضاء افتراضي كالذي توفره منصة فيسبوك، فإن ذلك كله سيكون مثيرًا ومدرًا للتلهف المستمر.
وحين يتاح للفرد إمكانية التواصل مع الآخرين على ذلك النحو الذي يتيحه فيسبوك، والإمكانات التي يوفرها بافتراض مضمر مفاده؛ أن ما هو متاح له كفرد متاح له مع الآخرين بسوية واحدة (مع توفر خاصية أن يكون ذلك الشخص شبحًا في الوقت ذاته)، فهذا الوضع الغريب بذاته سيكون مصدر تساؤل باستمرار كلما طرأ تفكير جاد عن هوية الفيسبوك وطبيعته الدقيقة.
وفي تقديرنا أن المفارقات التي يعكسها التعامل مع فيسبوك في بيئات ومجتمعات مختلفة حضاريًا هي جزء من إرادة سوء الفهم الذي لا يزال يصر على تعميمها مخترعو فيسبوك منطلقين من قياس واحد- مرجعية القيم الأمريكية - وكذلك الاستعداد المتواطئ مع تجاوزات يمكنهم الخوض فيها دون وجل في سبيل الكسب الربحي، وبإمكانية للجدال حولها في المساحات النسبية والغامضة التي يمكن تمويه الجدل عبرها، كما لو أن مخترعي فيسبوك يقايضون اهتزاز مفاهيم الحرية في فضائه بما أنجزوه من اختراع واكتشاف تكنولوجي تاريخي كسر النمط التقليدي والضروري لمفهوم النخبة والجماهير! فاليوم بلغت إمبراطورية فيسبوك مبلغًا قد لا يتنبأ أحد في المستقبل القريب بالمآلات التي يمكن أن تسفر عن تداعيات تجاوز ضبط قيمة الحرية، لاسيما في المجتمعات التي تعاني إشكالية التخلف كالمجتمعات الناطقة بالعربية.
ومع ما ذكرنا في بداية هذا المقال، من تعلق الفرد بمجال، كالفيسبوك، يدخل فيه ضمن فضاءات افتراضية ليعقد خلاله صداقات وعداوات افتراضية وقاعدة جماهير افتراضية كذلك، بالرغم من الآثار التي تطرأ سلبيًا من ذلك كله في الواقع، إلا أن أكبر الأوهام التي يعومها فيسبوك في ذهنية ساكني فضائه الافتراضي وأخيلتهم، أن يجعلهم بفعل طول الإدمان إلى درجة قد تغيب فيها حدود الخيال الافتراضي والواقع الموضوعي، ومن هنا يتوهم بعض الساذجين في أتباعهم الفيسبوكيين (من المعلقين وأصحاب اللايكات) ما يظنون به أنه بالفعل يمتلكون حيثيةً قد يقيسون عليها صداقات الواقع الصلبة، والحقيقة أن ذلك التوهم هو إحساس تعويضي ناتج من كثرة الانفصال عن الواقع.
إن سردية التضامن الوهمي التي تنعكس في خيالات البعض من فرط الإدمان على هذا الفضاء الأزرق هي جزء من عمليات قد تصبح في المستقبل أشد تضليلًا؛ لأن تماس أثر النقاشات العنصرية، وما يشاكلها في فيسبوك مثلاً مع الواقع كردود أفعال متأتيةً أصلًا من فضاء غير مكتمل البنيات والأشخاص، هو في الحقيقة جزء من فارق الأطوار المجتمعية والحضارية التي لم يستصحب مخترعو فيسبوك- تحت وهم العولمة - خلالها أي تحرزات للآثار المحتملة من توهم سوية الاستخدام الواحد لفيسبوك في كل المجتمعات الإنسانية قياسًا فقط على القيم الأمريكية! هكذا لن يدرك المتوهمون أبدًا، تحت ضغط ردود الفعل اللامتناهية من تجديد الإثارة في التحديثات التي يصنعها فيسبوك، ما يضع البسطاء في وضع المتلهف باستمرار لمتابعة ردود الفعل المتصلة بما يكتبه ويقوله - كيفما كان - وفي غياب لقواعد تم نسيان أنها قد لا تكون القواعد والبنيات ذاتها التي تحكم الحياة الأمريكية!.
إن التضامن الوهمي لفيسبوك، رغم هويته التواصلية التي لا شك فيها، كان له أثر في تعزيز إيمان مطلق وغريب بالقوة الذاتية لوسائل التواصل الاجتماعي، حتى تخيل البعض كما لو أن تلك الوسائط بذاتها تصلح؛ لأن تكون بديلًا عن القواعد والآليات التي تحكم منطق وقوانين الواقع السياسي، لاسيما في السرديات التي بدت لكثيرين قناعة ما بجدوى فعلها كفعل أول وأخير في التغيير، حيال أحداث ما سمي بثورات الربيع العربي؛ نظرًا للدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك! ربما كان مهمًا اليوم التأكيد على أن ثمة خطرًا ما في مكان ما، من مستقبل البشر في علاقاتهم بوسائل التواصل الاجتماعي؛ خطر لا ندركه!
محمد جميل أحمد كاتب من السودان