في نقد الحياد
يعجبنا كعمانيين «خصوصا من الأجيال غير الشابة» أن نرفع من شأن من نصفهم بالمُتزنين. ونقدح في كل من هو حدي، انفعالي، وغير موضوعي «أيا يكن ما نعنيه بذلك وخصوصا -يا للمفاجأة- إن لم نتفق معه في الرأي». سياسة بلدنا الداعية للحياد وعدم الانحياز أصبحت جزءا من تشكيلنا النفسي، ومن طريقة تعاطينا مع قضايا العالم. لا أُحاول هنا بأي شكل نقد هذه السياسة، فهذا ليس مكاني؛ لأني -من جهة- لا أدعي امتلاك الخبرة السياسية في الشؤون الداخلية التي تؤهلني لمثل هذه المراجعة الناقدة، ومن جهة أخرى؛ لأن مثل هذه السياسات ضرورية ومطلوبة في بعض الظروف. كل ما أحاول أن أُجادل بشأنه هو الأثر الخطِر غير المباشر -لمن تربى في هذا المناخ- في قدرته على التعامل مع الشؤون المستجدة حول العالم.
يعلم الجميع أن الوقوف في صف الآخرين مُكلفٌ بطبيعة الحال. فهو من ناحية قد يُهدد امتيازات تحوزها، أو يُعرقل وصولك لبعض الموارد. فنحن نرى -مثلا، وعلى مقياس أكبر- أثر وقوف أوروبا في صف أوكرانيا وما أدى إليه هذا الانحياز من تضخم وأزمات في الطاقة والموارد. عند اتخاذ موقف بشأن القضايا الساخنة فإن المعلومات التي تبني على أساسها موقفك محدودة، بل وشحيحة في كثير من الأحيان خصوصا في الموضوعات الطارئة. الزمن كفيل بأن يكشف المزيد من الأدلة التي قد تُسفر عن تغيير رأيك في تلك الموضوعات. تبًا لم أكن أعرف! -تقول، أو هذا يُغير كل شيء! هذا أمر وارد دائما. التريث قبل الحكم على الأمور مطلوب بالطبع- لا يختلف اثنان على هذا. غير أن الانفعال يكاد يكون واجبًا أخلاقيًا عندما يتعلق الأمر بانعدام العدالة، أو التعدي على حقوق فرد أو مجموعة. إنك تُجازف بامتيازاتك عند اتخاذ بعض المواقف، وتضحي بالخروج من منطقة أمانك، وتسير عكس ما يقوله لك حدسك المتعقل، إلا أن انفعالك (وحتى غضبك) ضرورة إنسانية، فالغضب غير المرشح دافع للتغيير ومحفز للإصلاح.على عكس ما نتخيل، لا يُعبر الوقوف على الحياد عن ترفع (وهو فعل ينبع من قوة)، وإنما عن ضعف؛ فالمحايد يقف على الحياد لعلمه أنه غير قادر على تحمل عواقب موقفه وردود الفعل عليه. التزام الصمت يصبح حدسا بدائيا وطريقة عيش، للحد الذي يضعف قدرتك على التعامل مع مشاعرك، أو يرسم حدودًا لهويتك (من تكون وبماذا تؤمن). لكن لهذه الميوعة أيضا فوائدها البرجماتية، فالوقوف على الحياد إحدى أدوات الوصول التي لا تخذل. إذ يشهد تاريخ المحايدين -الذين لا يحملون آراءً ضد أي قضية أو شخص- بأنهم غير معادين لمن يملكون السلطة، أو من سيملكونها مستقبلا. إذ لا يغفل المحايد عن أن السلطة تدور، وهو جاهز لانقلاب الموازين وتغير لعبة القوى. وعندما يحين وقت الجزاء (إن كانت ترقية في العمل مثلا) من تُراه يُجازى سوى الكونجينياليتي، المثالي، الحذق. رغبة المحايد في أن لا يكون «صاحب مشاكل» تمشي يدا بيد مع قيم الاحترافية الرأسمالية، التي تؤكد أنه لا مكان للمشاعر في بيئة العمل، أو التعليم، أو الحياة العامة عموما. رغبتنا في ألا نكون «أصحاب مشاكل»، تضمن لنا تلافي «وجع الرأس» من جهة، كما تضمن ألا نخسر الامتيازات الحالية، أو أي امتيازات محتملة. الترفع عن المشاكل حين يأتي على هذه الصورة فهو يُعبر عن ضآلة لا بد وأن تسحق صاحبها في النهاية مُشعرة إياه بعدم القيمة.
شخصيا مررتُ بعدة مراحل في موقفي من القضية الفلسطينية مثلًا. كطفلة لم يكن أمامي إلا أن أقف (على نحو محسوم) مع أبناء قوميتي، ببساطة لم يكن الموضوع محل نقاش. كشابة تُشكك في كل السرديات التي ورثتها، وقد ترافق ذلك مع تقويض فكرتي البريئة والساذجة عن الخير والشر وجدتني أُخفف من دور إسرائيل في المعاناة الفلسطينية، وأفكر بالأمر على أنه صيرورة الأشياء (المعقدة) الطبيعية، وألوم من لا يضبطون انفعالاتهم عند تناول الموضوع؛ لأنهم يجعلون الموقف أسوأ. أما اليوم فأشعر أن واجبي الأخلاقي يُحتم علي أن أغضب، بكل ما في الغضب من قدرة (وعجز أيضا) على التصحيح. أعلم أن الموضوع «لن يتوقف عندي»، ولا أريد بهذا أن أُسجل أي موقف اعتذاري في هذه القضية تحديدا، لكن أُريد استخدام هذا المثال للتدليل على حمولة الحياد الثقيلة التي نرزح تحتها، والتي تدفعنا لمراقبة انفعالاتنا على نحو هوسي، مع جاهزية كاملة للوم النفس عندما نصطف مع من تُرشدنا عاطفتنا الأولى (التي يجب أن نصدقها) للوقوف معهم. لوم قادم من اعتبار التسليم للعواطف (بما فيه من أنثوية) ضعف، وخروج عن تقليد الحياد المقدس الذي يضمن عدم تورطنا في المتاعب. أتحدث عن هذه التجربة باعتبارها جرحا في ضميري المرهق، إذ كيف لأحد -ولو للحظة- أن يغض النظر عن الظلم وانعدام العدالة في قضية لا يُمكن أن تكون أكثر وضوحا؟! وأستخدمها هنا كمثال متطرف لأثر الوجود في مناخ الحياد هذا.