فـي نَـعْـيِ «نهايـة العـروبـة»
ليست جديدة هي تلك الدعـوات، المنبعثة من هنا ومن هناك، التي تَـنعَى العروبـةَ نعـيَ الواثق من «قضاء نَـحبها»، والتي لا يخفي بعض الألسنة اللاهـجة بنهايتها ذلك المقـدار المَهـول من مشاعر الكيد والتشفي التي يضمرها وهو يـلقي بدعواه. ليست جديدة لأنـها ترددت، كثيرا في أزمنة من الماضي القريب؛ رأيناها تنطلق غب انفراط الوحدة المصرية- السوريـة قبل نـيـف وستين عاما؛ ورأيناها تحتطب لنفسها قرائنَها من الأعواد اليابسة غداة الهزيمة العربية في حرب يونيو 1967؛ ورأيناها تتجدد بعد رحيل عبد الناصر... ثم بعد غـزو العراق وإسقاط نظام «حزب البعث» واغتيال الرئيس صدام حسين (2006-2003)؛ ثم في كـل مـرة نـكـبَت فيها الأمة بنكبة سياسية أو عسكريـة نلتقي بها وقد أطلت برأسها المشؤوم. وإخَـال أن هذه الدعوة لن تتوقـف حتى وإن توقـف مسلسل النـكسات؛ إذ هي مبرمجَـة على موجة التحبيط والتخذيـل والتـيئيس التي ينخرط فيها جيـش عرمـرم من خصومها الألـداء؛ إما ممَن ناصبوها العداءَ وعالنوها الخصومةَ بالتلـقاء، أو مَن درجوا على ذلك من باب تقديم السـخرَة لمن يريد بالعرب شـرا...
لا تـفصح هذه الدعـوات عن نفسها سياسيـا دائما وفي الأوقات كافـة، بل كثيرا ما قدمت نفسها في صورة «ثـقافيـة» أو قـل - للـدقـة - في صورة إيـديولوجية. في كل مـرة نصطدم بمن يبحث للعروبة عن نقائضها للحط منها، أو - على الأقـل - للنيل من مركزيـتها: مـرة باسم النـزعات الشوفينـية القديمة (الفرعونيـة، الفينيقـيـة...) التي يصار إلى ابتعاثها من جديد سعيا وراء نسف الهوية العربية للبلد الذي تنـطلق منه هاتيك الدعـوات؛ ومـرة باسم العالمية والانفتاح ونـشدان الكونيـة حيث يَـشرَع مَن يَشـرع في تحقير اللغة والثـقافة العربيـتين والقـدح فيهما، وفي إقـامة مهرجانات مديح مكتوب في اللغات والثـقافات الغربيـة (الإنكـليزيـة والفرنسية خاصـة)؛ فيما تنصرف تلك الدعـوات - مـرات أخرى - إلى وضع الإسلام مقابلا للعروبة وكأنـما هما على طرفي نقيض وليسا متلازمين!
لهذا الاجتـراء السـافر على العروبة سياقات يجري فيها نستطيع تمييز ثـلاثة سياقات منها: سياق ذاتـي تراجعي؛ سياق عولمي؛ وسياق أنثروپـو- ثـقافي انكفائي. وهي سياقات لا يـفضي بعضها إلى بعض دائما، لكن النـتائج التي عنها تـسفـر تأتي مترابطة يَـشهد بعضها لبعض.
من تحصيل الحاصل أن يأتيَ العروبةَ بعض الإيذاء من كثير ممن هم يحملونها سَـمـتا ونَعـتـا ويـنسَبون إليها. هكذا هي حال عرب اليوم، شعوبا ودولا، مع العروبة نفـعا وضَـرا. يعلو شأنهم فيرتفع بعلـوه مَقَامها وتَسمق سمعتهـا؛ وتَحـل بهـم الهزائم والكَـبوات فيأتي عليها حصاد ذلك بوخيـم العقابيل. وها هي حال العرب، اليوم، كما قـد عَـلمـنا من السوء والعسر بحيث لا مزيد عليها؛ وها هي مكانتهم في سلم القـوة الاقتصادية والعلمية في العالم تتراجع، بالتـدريج، إلى وراء الوراء في المراتب، وهيبتهم في المحيط الدولي تتآكـل إلى درجة اجتراء الآخرين عليهم. ماذا يسع العروبةَ، في مثل هذه الحال من وهنـهم، غير أن تكون على مثالهم: ملقاة على قارعة طريق التاريخ من أسف! والأنـكى أن لا يصيب صورتَها تراجع عند غير العرب فحسب، بل عند العرب أنفسهم أو عند من يعيش بين ظهرانيهم من جماعات أقواميـة أخرى!
على مثال هذا السياق العربي التراجعي الذاتي وجدت العروبة نفسَها تدفع ثمنا تـرتبه عليها أحكام سياق دولي مستجـد وفي جملتها (أي الأحكام) الاستباحة والمَحـو والإلغاء باسم الكونيـة ووحدة المعايير الإنسانية. العروبة، هنا - وهي في هذا تشبه كـلَ خصوصية لكل أمـة أو حضارة-، مدعـوة إلى أن تتخلى عن كـل ما تتمسك به من مبادئ خاصـة ومن قيم لكي تدخل - بقـوة العـنف العولمي - في منظومة «الكونية» تلك، ولكن لا بما هي مصدر من مصادر تلك الكونـية، بل من حيث هي ساحة مفتوحة لفعل تلك «الكونية» فيها؛ ذلك أن منطق العولمة التدميري يقضي بالزحـف على السيادات جميعها والخصوصيات جميعها: والعروبة- مثل غيرها- سيادة وخصوصية: في الشخصية الثـقافيـة واللسانية والهوياتـية. وإذا ما أضفنا إلى هذا العدوان العولمي على العروبة العدوانات العسكرية على الشعوب والدول العربية- وآخرها ما شهدنا عليه بمناسبة اندلاع أحداث ما سمي بـ «الربيع العربي»- تبين إلى أي حـد كان هذا العدوان الخارجي على العروبة موجـعا.
السياق الثالث من مصادرَ عـدة: داخليـة وخارجيـة، وإن كان واحدا في الطبيعة والأهـداف (التجزئة والتقسيم). أمـا أن مصادره داخليـة فلأن قـواها من جماعات محلية منشقـة عن العروبة بدعوى استقلالها بهويـات خاصة؛ وأما أن مصادره خارجية فلأن قـوى الهيمنة النيوليبراليـة العولمية هي التي ترعى حالات الانشقاق الداخلي تلك وتجنـدها للتـمرد على رابطـة العـروبة قصد تمزيقها، من طريق اصطناع حرب هويـات وهـمية بين العروبة وما ينتمي إلى حوزتها من تعبيرات ثـقافـية باللهجات المحلية. وغني عن البيان أن الهـدف من هذه المعركة مع العروبة هـو استـنزافها من الداخل، وتهشيش مركزيـتها في الاجتماع الوطني وصولا إلى إسقاطها كليـة وتمزيق أواصـر ذلك الاجتماع وتفتيـته إلى وحـدات هـويـاتيـة أنثروپـوثقافية صغرى لإعادة تركيبه في صورة كيانات مجـزَأة!
تَـعمل قـوى هذا الاجتراء منفردة أو بالتـناغـم، ولكن للهدف عينـه: إفـقار العروبة من موارد قـوتها وإضعافها أو إسقاطها تسويغا لأفكـار أخرى: الوطنـية الضـيـقة المناهضة للعروبة، الفكرة الكونيـة العولميـة الاستباحية والإلحاقيـة، ثم فكرة الهويـات الفرعيـة المتطلعة إلى كينونة سياسية. مع ذلك؛ مع أنـنا لا نستهين بإذايـة هذه الجهات المفتوحة على العروبة، إلا أنـنا نجدنا في غـنى شديد عن الحاجـة إلى مقارعـة تفصيليـة لمثل هذه المَـزعمة الإيديولوجيـة عن «نهايـة العروبة»، لا لشيء إلا لأنـها غير ذات موضوع بل لا تفعل، في أزعومَـتها تلك، سوى ترتيل أمان وبغيات عسيرة التحـقـق في التاريخ.