في معنى الحياة
ليس للحياة تعريف جامع مانع، لكن البعض يعرفها ببساطة على أنها نقيض الموت، أو أنها النمو والبقاء والمتعة للكائنات الحية. ولست هنا بصدد نقاش ماهية الحياة أو تعريفها من الناحية الدينية أو الفلسفية وإنما أكتب عن مشاهد بسيطة مررت بها خلال الأسابيع الماضية وأوحت إليّ بتصور حول معنى الحياة، أو بعبارة أدق، أن أقول رأيا حول من هو الإنسان الحي، ليس بكونه نقيض الميت وإنما بما يقوم به من عمل وما يتركه من أثر.
يا رُبَّ حيّ رخام القبر مسكنه
ورب مَيْتٍ على أقدامه انتصبا
في شهر ديسمبر عدت لزيارة المغرب صحبة أخ عزيز بعد انقطاع عنها دام سنتين. وقد كنا نحرص في كل مرة على التنقل بين مدن تلك البلاد ونواحيها لاستكشاف المزيد عنها إنسانا وحضارة وجغرافيا، وهو ما فعلناه كذلك هذه المرة. والمغرب كما هو معلوم بلد عربي عريق التاريخ، عميق السياسة، واسع الثقافة، متنوع التضاريس والمناخ، ويتميز عن كثير من الدول العربية في الوقت الحاضر بأنه يشهد على مر السنوات العشر الماضية تقدما مستمرا وملموساً في شتى مجالات التنمية وتحسنا ملحوظا في مستوى معيشة الناس، بل إن السلطات المحلية والبلدية هناك قد استفادت من انتشار وباء كورونا وما أدى إليه من انخفاض الزحام المروري فقامت بتحسين البنية الأساسية مثل الطرق والأنفاق وأرصفة المشي والحدائق العامة في بعض أحياء المدن.
على أثر الإعلان عن ظهور المتحور الجديد من وباء كوفيد-١٩، المدعو أوميكرون، قررت الحكومة المغربية أغلاق مطاراتها ومنع السفر من وإلى المغرب، وذلك درءً لانتشار الوباء فيها، مما اضطرنا إلى البقاء هناك فترة أطول مما كانت عليه في المرات السابقة. وكالعادة استثمرنا فترة بقائنا هناك في زيارة معالم تراثية ومناطق طبيعية في ذلك البلد الجميل. ومن المدن التي قادتنا اليها خطانا هذه المرة مدينة سلا، الأخت الأكبر سناً أو التوأم الجغرافي للعاصمة الرباط والتي يفصلها عنها نهر أبي رقراق عند مصبه في المحيط الأطلسي، أو "المحيط الهادر" كما كان يلقّبه البعض خلال فترة المد القومي العربي في الربع الثالث من القرن العشرين، وهو بحق محيط هادر بسبب أمواجه العالية التي تصطدم بالشواطئ الصخرية فترتد مرتفعة فوق سطح البحر، كأنها السحاب.
تعتبر مدينة سلا واحدة من أعرق المدن المغربية، حيث تأسست في القرن الحادي عشر الميلادي على يد أسرة "بني عشرة"، وهي أسرة كانت ذات نفوذ وثروة، وأولت اهتماما وعناية بالعلوم والآداب. وبعد بني عشرة قدمت إلى سلا أسرٌ وجماعات أخرى، سواء جاءتها من الأندلس أو من مناطق أخرى من المغرب. وقد اعتنت "دولة الموحدين" بمدينة سلا عناية خاصة، فبنى فيها القائد الموحدي العظيم يعقوب المنصور أحياء ومساجد جديدة، أشهرها مسجدها المعروف بالمسجد الأعظم الذي كان في حينها أكبر مساجد المغرب، و ذلك في عام ٥٩٣ هجرية الموافق 1196 ميلادية. ونظرا لأهمية هذا المسجد ومكانته فإن أذان صلاتي الظهر والعصر كان ولا زال يرفع لهما مرتين في مدينة سلا، ويقال إنه كذلك في مدينة تطوان الواقعة في شمال المغرب. حيث يرفع الأذان الأول في الجامع الأعظم وفي جميع المساجد الأخرى، ولكن الصلاة تقام أولا في الجامع الأعظم، وبعد فترة قصيرة يرفع الأذان الثاني وتقام الصلاة في بقية مساجد المدينة. ومن المعالم التاريخية الأخرى بمدينة سلا سور يعرف بسور الأقواس أو سور الماء، وهو عبارة عن ساقية محمولة على أقواس، تتدفق فيها مياه الشرب إلى المدينة من أعلى النهر الواقع خارج أسوارها.
ومثل غيرها من مدن المغرب، توجد في مدينة سلا سوق تقليدية "سويقة" تغطي مساحة واسعة من قلب المدينة القديمة. وبالرغم من قِدم المباني في المدينة وضيق وطول وتفرع الطرق، أو الزناقي كما يسميها المغاربة "جمع زنقة" أو السكك التي بداخلها إلا إنه يتم باستمرار الاعتناء بها وصيانتها لجعلها مناسبة للتجارة والسُكنى. لذلك فإن كل "الزناقي" في المدينة مرصوفة بالحجر أو البلاط الإسمنتي، كما أن جميع البيوت والمحال التجارية فيها مزودة بالكهرباء ومياه الشرب ومربوطة بشبكة حديثة للصرف الصحي. وكغيرها من الأسواق القديمة في المغرب، فإن سكك وزناقي وزواريب سويقة مدينة سلا مكتظة بالناس، رجالا ونساء، أطفالا وصبْبية، شباباً وكهولا، بعضهم من سكان المدينة ولكن أكثرهم من المتسوقين والسواح الوافدين إليها. كما أنها مزدحمة بالمعروض فيها للبيع من السلع. وتتراوح المعروضات للبيع من الهواتف والأجهزة الإلكترونية، إلى الخضروات والفواكه والزيتون والزيوت، إلى الدجاج الحي والأسماك الطرية، وحتى الأواني القديمة والملابس والأحذية المستعملة. لذلك فإن الكل في السويقة مشغول بما هو فيه أو ما جاء من أجله. فهذا يسأل عن سعر بضاعة أو سلعة، وتلك تطلب شراء دجاج أو سمك أو لحم، وذاك صائغ يغري المارة بالدخول إلى محله لشراء شيء مما يصنعه من الحلي أو الأواني الذهبية والفضية، وتلك أخرى تشتري ملابس أو أحذية محلية الصنع أو تُبادل سلعة بسلعة أخرى. وإلى جانب هذه وذاك هناك أيضا من جلس مطرق الرأس يستمع إلى آي من القرآن الكريم. وعلى بعد خطوات منه شخص آخر يستمع إلى "الملحون" أو الأغاني الشعبية المغربية.
من المؤكد أن ذلك الازدحام وتلك الأصوات المتداخلة، لا تدل على أن الكل هناك في راحة ورخاء أو متعة و سرور. لكن من الواضح أن الأكثرية منهم ساعون بجد وجهد من أجل البقاء أو لتحسين أحوالهم وأحوال أسرِهم ومن يعُولون، وذلك السعي والعمل هو في نظري أعلى معاني الحياة. فليست الحياة أن يعيش الإنسان عالة على غيره، أو أن يصبح ويمسي في قصر باذخ، محاطا بحراس وخدم طوع إشارته وإمرته، ومتنعما بما يقدم له من طعام وشراب، مسترخيا على الكراسي الوثيرة أو نائما على أسرّة الديباج والحرير، خلواً من الهم والتبعات وغير عابئ بأحد، غير معني ولا مهتم بما يعانيه الآخرون، ولا حتى يدري عن معاناتهم.
الحياة بذل وعطاء وليس أخذا واتكالا. هي أن نعمل بجد لنحيا أعزة، وأن نعمل من أجل كرامة وسعادة من حولنا ومن يهمنا أمرهم. الحياة التي لها معنى هي تلك يحياها مثل ذلك قال عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالّاً من عمل يده أمسى مغفوراً له". الحياة هي السعي بإخلاص وجد من أجل تحقيق هدف، أي أنها كما قال عنها أمير الشعراء، أحمد شوقي: "إن الحياة عقيدة وجهاد".
باختصار، الحياة هي أن نعيش مع الناس وللناس وليس بالناس، وإذا لم تكن كذلك فإن العمر هو مجرد عيش زائل وسنوات عابرة.
د. عبدالملك الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية