في مصائر الإصلاح والثورة والديمقراطية
بعد تجربة ما سمي الربيع العربي، انكشفت مصائر كثيرة عن مآلات الحراك الثوري الذي انتظم أحوال شعوبه منذ عام 2011م. وكشفت لنا تلك التجربة انسدادات متصلة بطبيعة الأوضاع التي عبرت عنها مصائر مختلفة لذلك الحراك المتزامن؛ من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن، وصولًا إلى سوريا.
وإذا ما بدت لنا اليوم حقيقة ما، فهي تلك التي تنعكس في جدوى النقاش الجاد والضروري حيال هوية الإصلاح والثورة بحسب التجارب المختلفة التي أفضت إليها مصائر ما سمي بالربيع العربي في تلك البلدان.
بطبيعة الحال، غنيٌ عن القول، إن ما حدث من مصائر مختلفة لتلك الدول على خلفية أحداث ما سمي بالربيع العربي لا يعني، ولا ينبغي أن يشكك، في جدوى القيم التي نادت بها تلك الشعوب وحاجتها الضرورية لها من؛ كرامة وحرية وعدالة، فذلك مما لا يمكن أن يسلم به عاقل، لكن، في الوقت نفسه، فإن جدوى النقاش حول ما إذا كانت حاجة بعض تلك الشعوب التي انتفضت في عام 2011 إلى منهج الإصلاح أم إلى الثورة تظل مما يجب أن تنخرط فيه نقاشات النخب الفكرية والثقافية لشعوب تلك الدول، لأن ما ظهر بعد سقوط الأنظمة خلال الموجة الأولى لما سمي بالربيع العربي؛ كشف أيضًا عن سذاجة ظن بها كثيرون؛ أن مجرد سقوط الديكتاتور سيعني تصفيةً للديكتاتورية، فيما هذه الأخيرة مهمة تتطلب صيرورةً وصبرًا وإدراكًا بأن المهمة الأكبر بعد سقوط الديكتاتور تكمن في: معالجات مستمرة ومعقدة وطويلة النفس للتعامل مع ما خلفته تلك الأنظمة من نظم إدراك وسلوك استبدادي ضار وفساد؛ أي تعامل طويل الأجل مع معالجات إرث الديكتاتورية.
وهذه الحقيقة التي غابت عن بال كثيرين في تجربة ما سمي بالربيع العربي هي ما تؤكده الخبرة البشرية للتاريخ والتي مفادها أن المجتمعات البشرية التي تتعقد أوضاع اجتماعها السياسي إلى درجة الانسداد سيقتضي خروجها من ذلك الانسداد عبر الثورة، بالضرورة، إلى كلفة بشرية هائلة من الدماء والدموع، للأسف، فذلك ما حدث لكافة الثورات الكلاسيكية الكبرى في التاريخ، وعلى رأسها الثورة الفرنسية التي لم تنتظم صيرورة طريقها الديمقراطي السالك إلا بعد أكثر من نصف قرن ، أوان حركة ربيع الشعوب الأوربية في عام 1848م.
فضلًا عن ذلك، اليوم؛ ثمة متغيرات كثيرة على رأسها؛ ثورة المعلوماتية والاتصال، وحركة العولمة، ستطرح تحديات جوهرية كبيرة في مقاربة النقاشات الجادة حول طبيعة الثورة والإصلاح الذَين تقتضيهما أوضاع المنطقة العربية، وما إذا كانت تحديات الواقع اليوم هي ذاتها تحديات واقع الثورات الكلاسيكية للقرن التاسع عشر والقرن العشرين؟ لا يمكننا، فيما نحن نحاول التمثلات المعرفية المشروعة للحداثة والحداثة السياسية، أن نغفل سياقات هذه المنطقة من ناحية، والسياقات الأكثر خصوصية لكل مجتمع على حدةٍ من مجتمعات المنطقة العربية. وبالتالي فإن قضية الإصلاح الديني من الضرورة بمكان أن تكون على رأس أولويات الإصلاح لجهة أن الدين الإسلامي في حد ذاته لا يمكنه أن يعكس انسدادات خطيرة كالتي أفرزتها المسيحية الأوروبية التي عطلت مطلق الحياة الإنسانية تعطيلًا كان الخروج منه أفضى إلى الثورة بتلك الطريقة الراديكالية التي عبرت عنها الثورة الفرنسية، حيث مارس فيها الثوار الفرنسيون تطبيقات عنف جسدت مقولة جان ميلسيير: «لن يعم السلام إلا إذا شُنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر رجل دين»! لكن هذا لا يعني كذلك أن نظم إدراك فهمنا اليوم للإسلام لا علاقة لها بالتخلف الذي أصبح هوية هذه المنطقة!، لذا فإن الإصلاح الديني لابد أن يكون حلقة ضرورية لتهيئة مجتمعات المنطقة في سياق التغيير الذي يحقق قيم : العدالة والكرامة والحرية.
في السياق الريادي لما سمي بالربيع العربي يمكننا أن نلاحظ النجاح النسبي لتجربة تونس، لناحية ريادتها، أولاً، ولناحية الأسس التي أدت بالضرورة إلى الثورة فيها، أي تلك الأسس التي تتصل بتوسع الطبقة الوسطى ونجاح النظام التعليمي في إفراز شرائح تلك الطبقة باستمرار في المجتمع، ومع ذلك لا تزال تونس بعد مرور 10 سنوات من الثورة تعاني من صعوبات الانتقال الديمقراطي، ليس لأن الديمقراطية مستحيلة في هذه المنطقة (كما كان يزعم برنارد لويس صاحب مقولة الاستثناء العربي) وإنما لأن تلك الصعوبات هي من صميم طبيعة الطريق إلى الديمقراطية!