في مديح الشيخوخة
ليس هذا العنوان من عندي، وإنما هو عنوان كتاب صغير الحجم للفيلسوف والسياسي والخطيب المفوَّه شيشرون؛ قام بترجمته عن اللاتينية إلى العربية ترجمة رصينة الدكتور فتحي أبو رفيعة. وعلى الرغم من أن النسخة الأولى من مخطوط هذا الكتاب ترجع إلى سنة 44 قبل الميلاد، فإن هذا الكتاب صغير الحجم ظل تأثيره بعيد المدى حتى يومنا هذا، وتُرجم إلى عدة لغات، آخرها الترجمة الإنجليزية الحديثة التي صدرت سنة 2016. ويرجع هذا إلى أهمية موضوعه وندرة الكتابة فيه، والعمق الفلسفي الكامن في أفكاره التي تشبه الحِكَم في أمور الحياة العملية بمنأى عن التجريدات الفلسفية؛ ولهذا قال عنه الأديب الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتاني إنه أثار شهيته لبلوغ سن الشيخوخة؛ كما قال بنيامين فرانكلين إن هذا الكتاب قد بهره إلى الحد الذي جعله يأمر بترجمته وطباعته في فيلادلفيا سنة 1744. ونظرًا لأهمية هذا الكتاب المكتوب على طريقة المحاورات الأفلاطونية، والذي يحفل بتفاصيل عديدة في كل فصل من فصوله؛ فإنني سأحاول إيجاز أفكاره الأساسية وروحه العامة في السطور التالية.
لقد عاش شيشرون حتى تخطى سن السبعين، وهو عمر يُعد طويلًا في زمانه. وكان الرأي الشائع في زمانه- مثلما هو شائع في زماننا هذا- أن الشيخوخة تسلبنا شبابنا وما يقترن بمرحلة الشباب من مزايا؛ بينما هو يرى أن الشيخوخة لا تسلب من العمر أكثر مما تسلبه مرحلة الشباب من الطفولة. ومعنى هذا ببساطة أن كل مرحلة من العمر لها جمالها ومزاياها الخاصة بها، إذا ما عاشها المرء على النحو الذي يليق بها. أما ما يجعلنا ننظر إلى الشيخوخة باعتبارها حالة من النقص والتدهور تجلب علينا التعاسة لا السعادة؛ فإن هذا يرجع- فيما يرى شيشرون- إلى أربعة أسباب: الأول هو أن الشيخوخة تبعدنا عن ممارسة النشاط، والثاني أنها تضعف أجسامنا، والثالث أنها تحرمنا تقريبًا من جميع ملذاتنا الحسية، والرابع أنها ليست بعيدة عن الموت، بل تقرِّبنا منه في الأحوال الطبيعية. ومجمل كتاب شيشرون يحاول الكشف عن الأخطاء في هذه التبريرات.
ينتقد شيشرون السبب الأول في فصل بعنوان "الحياة النشيطة"، حيث يبين لنا أن الشيخوخة لا تحرم الإنسان من الحياة النشيطة، ما دام أن النشاط ليس له معنى واحد: فالنشاط في مرحلة الشيخوخة لا يعني الأنشطة التي نشارك فيها حينما كنا شبابًا أقوياء، وإنما يعني الانغماس باستمرار في متعة النشاط العقلي الذي يجلب الحكمة والمعرفة، وهي معرفة يمكن أن يستفيد منها الشباب وحكومة الوطن على السواء. ويضرب هنا شيشرون مثالًا عمليًّا بالغ الدلالة، فيقول: "إن الذين يقولون إنه ليست هناك أنشطة مفيدة تتعلق بالشيخوخة يجهلون ما يتحدثون عنه، إنهم كهؤلاء الذين يقولون إن القبطان لا يفعل شيئًا مفيدًا لكي تبحر السفينة؛ لأن هناك آخرين يتسلقون القلاع ويجرون عبر الممرات ويشَّغلون المضخات، بينما هو يجلس مستريحًا في قمرة السفينة ممسكًا بدفتها. فهو إن كان لا يقوم بما يقوم به البحَّارة الأصغر سنًا، إلا أنه يقوم بما هو أهم وأقيم؛ فالأفعال العظيمة لا يقيُّم أداؤها بما استُخدِم فيها من قوة وسرعة ورشاقة بدنية، ولكنه يقيُّم بالحكمة وقوة الشخصية والحكم المتَّزن. وتتوفر هذه الصفات للأشخاص في شيخوختهم، بل إنها تنمو وتزداد ثراءً مع مرور الوقت" (ص. 46). هذا نص بليغ عميق الدلالة؛ إذ إنه يبين لنا- من خلال مثال بسيط عملي- أن الحكمة والاتزان والقدرة العقلية هي مزايا يمكن أن تتحلى بها الشيخوخة، بل إنها تكون أكثر قيمة من مزايا القوة الجسدية التي نتحلى بها في مرحلة الشباب: فالبحارة الشباب الأقوياء على متن السفينة ضروريون، ولكن هناك كثيرين غيرهم يمكن أن يحلوا محلهم، أما القبطان صاحب الحكمة والخبرة فهو شخص نادر، من دونه سوف تغرق السفينة أو تفقد مسارها الصحيح.
وإن كانت قدراتنا الجسمية تضعف في مرحلة الشيخوخة، إلا أننا يمكن أن نمارس نشاطًا محدودًا بالقدر الذي يحافظ على صحة الجسم؛ والأهم أننا يمكن أن نستمتع بممارسة النشاط العقلي كالدراسة والكتابة وتقديم المشورة والخبرة في نطاق مجتمعنا. وهذا النشاط العقلي يتطلب تدريبًا منذ مرحلة الشباب؛ ولذلك فإن الشباب الذين يستغرقون شبابهم كله في كل ما يتعلق بالبدن وملذاته، لن يمكنهم في المستقبل أن يعيشوا متعة الشيخوخة، وستكون شيخوختهم تعسة، يمضونها في التحسر على ما فقدوه من شبابهم من دون أن يعرفوا ما يمكن أن يكتسبوه في شيخوختهم. كما أن ضعف الرغبة الجنسية الذي يقترن بالشيخوخة ليس شيئًا سلبيًّا؛ لأن هذه الرغبة هي أصل كل الأهواء والرغبات الأخرى التي تحول دون حُسن استعمال عقولنا؛ ومن ثم فإن ضعفها يفسح المجال لمتع أخرى روحانية وعقلانية.
ويمكن للمرء في مرحلة الشيخوخة أن يمارس نشاطًا مريحًا ومفيدًا للبدن والروح ومعًا، وينصحنا شيشرون بممارسة الزراعة التي تكفل لنا مباهج عديدة حينما نشاهد قوة الطبيعة في الإنبات والإثمار، وتكفل لنا شيئًا يبقى لأحفادنا من بعدنا.
أما القول بأن الشيخوخة تقربنا من الموت، فلا ينبغي أن يشكل هذا همًّا أو مصدَر خوف: فالموت إما أن يكون فناءً تامًا للروح، أو يكون انتقالًا للروح إلى عالم الخلود؛ وفي كلتا الحالتين لا مدعاة للخوف من الموت؛ وكل ما سيبقى منا بعد رحيلنا هو الأفعال الطيبة والقيّمة التي قدمناها في حياتنا.