في شأن التنمية البشرية
يسعى برنامج التنمية البشرية أكثر إلى العمل على تعظيم العائد الوطني من القوى البشرية والإنتاج الوطني الخاص، واستغلال وتوظيف وصيانة الموارد الطبيعية، والتحكم في عدم الهدر المفضي إلى انحسارها، أوعدم قدرتها على تعويض الفاقد للموارد المماثلة الأخرى، وهذه النتيجة في مجملها لن تتحقق إلا من خلال وجود قوى عاملة وطنية خالصة، تفرزها هذه التنمية المشار إليها في العنوان، في مختلف المجالات، فالعائد الوطني لا يتحقق إلا من خلال التنمية البشرية الوطنية الخالصة، والتنمية البشرية الخالصة لن تتحقق إلا من خلال التركيز على تنمية المواطن الخالص المنتمي انتماء جذريا ممتدا للأرض التي خرج من ترابها، واصطبغ بطينتها اللزجة، وليس هناك خيار ثان يمكن أن يعوض الفاقد.
عندما يتم الحديث عن التنمية البشرية، ويشار إليها بصورة خاصة، فإن الحديث يتموضع أكثر عند الإنسان، فالبشرية هي مجموعة من الناس، تعيش في محور أو مكون جغرافي محدد، وهذه المجموعة تحتاج إلى كثير من البناءات الإنسانية «الاجتماعية» والمعرفية، والتنموية، لأنه يرتجى منها عائد مجزٍ يتناسب على الأقل مع كتلتها وحمولتها إن لم يزد، وما تمثله من ثقل في محيطها الجغرافي والذي يشار إليه وبأهميته بها خاصة، حيث لا يمكن أن تتناسخ المجموعات البشرية لتعبر حدود أوطانها فتكون بنفس صفاتها وتكويناتها البنيوية، إطلاقا، ولذلك فكل مجموعة بشرية هي منحازة، ويجب أن تكون منحازة لمحيطها أو مكونها الجغرافي بكافة خصوصياتها من القيم والمعارف، والمكتسبات الاجتماعية التي تُفَرِّدُها عن مثيلاتها من المجموعات، ولذا تركز الأوطان على مجموعاتها الأصل، ولا ترى في البديل إلا مرحلة انتقالية حتى يتأصل ثبات المجموعات البشرية الأصل لتنجز ما يجب عليها إنجازه، ويكون ذلك فرض عين، وليس اختيارا مرحليا، وإلا خسرت الأوطان، وتراجعت إلى الوراء أزمان عديدة، وفقدت بذلك أهم مقوم البناء والتعمير، ولذلك ينظر إلى الـ«هدايا الديموغرافية» -مجموعات الأجيال المتلاحقة في أزمان قصيرة- التي تنتجها الأوطان بكثير من الاهتمام، والرعاية، والتفاؤل، لأن في توالي هذه الهدايا الديموغرافية في الوطن، ميلاد أعمار جديدة، من القوى البشرية التي تتسلم عادة المهام والمسؤوليات عمن سبقها، لتكمل مسيرات التنمية بكل عزم واقتدار، ولكي تصل هذه المجموعات البشرية المتتالية إلى هذا المستوى من تحمل المسؤوليات، ومن الإنجازات النوعية لأوطانها فإنها في المقابل تحتاج إلى كثير من البذل والعطاء لتنميتها، وتأهيلها، وتعزيزها بالإمكانيات المعرفية والفنية، والعمل على الاحتفاء الدائم بالهدايا الديموغرافية المتتابعة، واستغلال طاقاتها البشرية، وتوظيفها التوظيف السليم لخدمة التنمية البشرية، فالمشاركة الاجتماعية الواسعة في مشروعات التنمية، لن تتحقق إلا من خلال هذه المجموعات البشرية المتتالية، ومساهمتها المباشرة، وبذلك يمكن أن تؤتي أكلها كل حين، وإذا صادفت في مراحل نموها أي تقصير، فإن ذلك سوف يؤثر سلبا لا محالة على مستويات الأداء، والإنجاز، ومن هنا يذهب صانع التنمية على إعطائها الاهتمام الكبير والخاص، والمتواصل، ودعمها بكل الوسائل التي تناسب كل عصر على حدة، حتى لا يكون هناك أي خلل في مسيرات التنمية المتجددة والمتواصلة، لأن الأوطان لا تحددها تواريخ النشأة والانتهاء، وإنما هي حالة مستمرة، نامية، مزهرة، منتجة، لا تحدها حدود الزمن، بقدر ما تعلي من شأنها، وتزيد في عمر بقائها.
تحل المظلة الاجتماعية باستحقاقاتها الشمولية، كإحدى المحطات المهمة في مفهوم التنمية البشرية، ولذلك تولي الحكومات جل اهتماماتها للوصول بتحقيق متطلباتها من التنمية اهتماما كبيرا، ليقينها أن الوصول إلى مستوى الإشباعات المختلفة لما تتطلبه المظلة الاجتماعية يمثل تحولا مهما في هذه التنمية، ويعطي قراءات جيدة، لما تسير إليه خطط التنمية من مسارات صحيحة، وما تفرزه هذه الخطط من عوائد مادية، ومعنوية، وما تفضي به من مكاسب اجتماعية، وفي مقدمتها مكسب الأمن الاجتماعي على امتداد الوطن الواحد، ولعل تحدي المظلة الاجتماعية ينظر إليه على أنه من أصعب التحديات، ومتى تم تيسير متطلباته، والوقوف على ما يستلزمه من استحقاقات، يكون لمشروعات التنمية فضل السبق في تنفيذ مشروعاتها الكبرى، فالحمولة التي تمثلها المظلة الاجتماعية حمولة ثقيلة، وتشعباتها الكثيرة، وفي الوقت نفسه قابلة هذه الحمولة لأن تنزلق في متون تداعيات مختلفة، من الفقر، والجهل، وتشتت الأسر، وضياع الأجيال، وتحميل برامج التنمية أعباء ليست يسيرة على المدى البعيد، ولذلك فهذه المسألة تمثل أهمية كبيرة، وينظر إليها بعين الاعتبار والتقدير.
من ضمن النتائج المهمة لتحقق التنمية البشرية في شقيها المادي والمعنوي أنها تحقق الأمن الاجتماعي بكل مفاهيمه اللوجستية والفنية، ومتى وصل المجتمع إلى هذا المستوى من النتائج كان ذلك مؤشرا مهما لمدى قدرة برامج التنمية على الإيفاء بالتزاماتها المرحلية، وبنجاعة خططها وبرامجها الإنمائية المختلفة، وبقدر بساطة الطرح في استحضار هذه النتيجة الاحتفالية في حالة تحققها، إلا أن الأمر فيه من الصعوبة ما فيه، خاصة في ظل تجدد وتنوع الظروف المادية للدول، التي تواجه ظروفا غير مخفية على أحد، وفي ظل شح الموارد، أو ما يحول دون استخدامها الاستخدام الأمثل، إلا أن كل ذلك يبقى رهين ظروف، ينظر إليها على أنها مؤقتة، مقابل تحقق هذا الهدف الكبير، والمحوري في مفهوم التنمية بشكل عام، وفي مفهوم التنمية البشرية بشكل خاص، والرهانات المطروحة لتحقق هذه الهدف هو حرص الحكومات ويقينها الدائم أن هدف التنمية هو الوصول إلى تحقيق وتحقق هذا الهدف من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن خطط التنمية الإنمائية، وبرامجها المختلفة تظل حريصة على أن لا تفوت أي فرصة يمكن من خلالها تحقيق التنمية البشرية.
يأتي أهمية شيوع المعرفة من الأولويات المهمة في مسيرة التنمية في أي بلد، وبدون هذا الشيوع والشمولية، فسوف تواجه التنمية عراقيل كثيرة، ومعقدة، خاصة اليوم في ظل التحول الكبير إلى التقنية الحديثة لكل الأدوات التي يتعامل بها الناس لمختلف شؤون حياتهم اليومية، والشيوع المعني به هنا في هذه المناقشة ليست القراءة والكتابة، فهذا أمر مسلم به مع بداية نشأة الأجيال منذ نعومة أظفارهم، ولكن المقصود به هنا هو الأخذ بالأساليب العلمية الحديثة في كل شأن من شؤون الحياة، بحيث ترفع كلفة الجهد الشخصي القائم على اتخاذ القرار الارتجالي في كل مجالات التنمية، وإنما تخضع المسألة للحسابات الدقيقة لكل برامج التنمية في لحظتها الحالية، وما سوف تؤول إليه النتائج بعد مدة من الزمن، وهذه المسألة على قدر تعقيداتها الفنية؛ لأنها قائمة على التقنية، إلا أنها تصبح من البساطة من حيث سهولة التعامل معها بعد تأسيس قواعدها الصحيحة، ولننظر على سبيل المثال مستوى الإنجاز الشخصي الذي يحققه الأفراد الذين يعتمدون التقنية في تنفيذ مشاريعهم المختلفة، سواء من حيث الكم، أو الكيف، وقلة التكلفة، مقارنة بما تنجزه المؤسسات، حيث لا مقارنة عند استحضار الإمكانيات المادية والفنية لكلا الطرفين، وانخفاض عائد المؤسسات يعود إلى مجمل التعقيدات الإدارية، وتوهان مركزية القرار في كثير الأحيان.
ينظر إلى حرية التعبير العقلاني المبني على المعرفة والاستدلال الحقيقي، على أنه من مقومات التنمية البشرية، وتزداد أهمية هذه المسألة كلما تقدم عمر الشعوب الحضاري، وذلك لهدف مهم، وهو السعي إلى المشاركة الواسعة من قبل المجتمع ليكون سندا مهما، وفاعلا مؤثرا لجهود الحكومة في تنفيذ برامجها المختلفة، ومتى عطل هذا الجانب، أو أجل دوره قليلا أثر ذلك في المقابل على السرعة المتوقعة للإنجاز في هذا الاتجاه، ولذلك يُقَيَّم دور السلطة التشريعية في تقنين هذا التعبير، وفي الاستفادة منه على أنه دور محوري في عملية التنمية البشرية، فمتى وجد الفرد صوته مصغيا إليه، أشعره ذلك بمسؤوليته المجتمعية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، وبأنه مواطن صالح، لا يسعى إلا إلى الإصلاح والبناء والتعمير، وهذا الشعور يبني فيه حقيقة المواطنة الصالحة التي تعتمدها خطط التنمية في إيصال مختلف رسائلها إلى المجتمع المحيط، وبذلك تحقق النهضة التنموية مقاصدها، وتتوسع رقعة إمكانياتها في تنفيذ البرامج المختلفة، وخاصة في جانب التنمية البشرية.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني