في سنغافورة أنموذج
كنت أقرأ في كتاب عنوانه «HAS CHINA WON» أي هل فازت الصين؟ وهو من تأليف الخبير الاقتصادي والدبلوماسي السنغافوري المعروف، كيشور محبوباني، الكتاب يتحدث في الجانب الأكبر منه عن التنافس الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، الذي زادت حدته منذ وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2017، وهو من الحزب الجمهوري.
ورغم انتهاء ولاية ترامب بهزيمته في الانتخابات الماضية ووصول جو بايدن، وهو من الحزب الديمقراطي، إلا أن ذلك التنافس لا يزال مستعرًا، ويتحول إلى تخاصم متصاعد ينذر بعواقب وخيمة، ليس على الاقتصاد الدولي وحسب وإنما أيضًا على الأمن والسلم العالميين.
لست هنا بصدد الحديث عن الكتاب ولا عن التنافس بين الصين وأمريكا، لكن ما لفت انتباهي ما جاء في الصفحات الأولى من الكتاب هو أن مؤلفه دعا الصين إلى الاستفادة من خبرة سنغافورة ونجاحها الباهر في اجتذاب مليار الدولارات من الاستثمارات الأجنبية إليها. وقال محبوباني: إن جذب الاستثمارات الأجنبية كان ضرورة اقتصادية لسنغافورة، أما بالنسبة للصين فهو ضرورة استراتيجية، وذلك لأسباب شرحها في ثنايا كتابه. وفي ذلك الإطار أشار إلى الدور المهم الذي يقوم به مجلس التنمية الاقتصادية السنغافوري في جذب الاستثمارات الأجنبية، معلوم أن هذا المجلس قد تأسس في عام 1961، أي قبل استقلال سنغافورة عن بريطانيا في عام 1963 واندماجها مع اتحاد الملايو، أو ما أصبح يعرف حاليا بماليزيا، ثم انفصالها عنها في عام 1965.
سنغافورة واحدة من دول معدودة في العالم تميزت بأهداف تنموية واضحة وسياسيات مرنة وإدارة صارمة وكفؤة مكنتها من تحقيق الأهداف التي وضعتها، وهي اليوم أنموذج للتنمية الناجحة بأبعادها المختلفة.
وترتبط عمان مع سنغافورة بعلاقات تمتد لمئات السنين، وذلك من خلال المصالح التجارية، وما صاحبها من تواصل ثقافي بينهما على مدى قرون من الزمان، لكنني لست هنا للدخول في التفاصيل التاريخية لتلك العلاقات أو الحديث عن سفينة «جوهرة مسقط» والضجيج الإعلامي الذي رافق إبحارها من ميناء السلطان قابوس في مطرح، عام 2010.
قطعت تلك السفينة في رحلتها تلك حوالي 5 آلاف كيلومتر إلى أن وصلت إلى مرساها في سنغافورة، وقد مخرت خلالها عباب أجزاء من بحرب عمان وبحر العرب والمحيط الهندي في رحلة ترمز إلى العلاقات التاريخية بين عمان وبلاد الملايو، ومنها سنغافورة، كما أنني لن أصف هنا كذلك «شارع مسقط» الذي هو أحد الشوارع الحيوية في سنغافورة. كذلك لن أدخل في تاريخ وتفاصيل التجربة التنموية السنغافورية، التي وضع أسسها رئيس وزراء سنغافورة الراحل، لي كوان يو، وقاد سفينتها لمدة زادت على ثلاثين عامًا، لكني سأستعرض جانبًا من العلاقات القائمة بين البلدين، وما يمكن أن تتم للاستفادة من تجربة وخبرة سنغافورة في مجال التنمية الشاملة، التي هي كما يجمع الخبراء على أنها تجربة ثرية ومثال يحتذى.
ترتبط عمان وسنغافورة في العصر الحديث بعدة اتفاقيات اقتصادية ثنائية، من أهمها اتفاقية التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات، واتفاقية منع الازدواج الضريبي، إلى جانب عدد من مذكرات التفاهم الموقعة بينهما. وللبلدين لجنة مشتركة تبحث التعاون في المجالات الاقتصادية والعلمية والفنية، بالإضافة إلى ذلك فإن بين عمان وسنغافورة اتفاقية تجارة حرة، في إطار الاتفاقية الموقعة بين دول مجلس التعاون وسنغافورة.
وبالرغم من أنه يظهر بين فترة وأخرى صخب وضجيج إعلامي عن العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلا أن الواقع يشير إلى أن تلك العلاقات لا تزال محدودة، ولم تتم الاستفادة من الأطر القانونية التي وضعت لها، سواء في الإطار الثنائي أو في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية من خلال اتفاقية التجارة الحرة بين دول المجلس وسنغافورة، فعلى الصعيد التجاري لا يزال حجم التبادل بينهما منخفضًا، حيث بلغ إجمالي قيمة الصادرات العمانية إلى سنغافورة في عام 2020 حوالي 184 مليون ريال عماني، فيما بلغ إجمالي قيمة الواردات من سنغافورة خلال العام نفسه حوالي 48 مليون ريال عماني. وربما يعود جانب من أسباب ذلك إلى أن اقتصاد سنغافورة يعتمد بشكل كبير على قطاع الخدمات، لكن من المؤكد أنه بمزيد من الجهد والترويج يمكن زيادة حجم التبادل التجاري، تصديرًا واستيرادًا، وذلك بسبب ضخامة الاقتصاد السنغافوري وقوة ارتباطه باقتصادات المنطقة والعالم. أما في مجال الاستثمار فلا يزال حجم الاستثمارات المتبادلة بين البلدين منخفض، مع أنه توجد بعض الاستثمارات السنغافورية في بعض القطاعات، مثل قطاع الكهرباء. كما كانت هناك محاولات قبل عدة سنوات للتفاوض مع إحدى شركات الموانئ السنغافورية للعمل في عمان، وحيث إن هناك آفاقًا واسعةً لتطوير العلاقات بين البلدين فإنه لا بد من القيام بجهد أكبر للبناء على الاتفاقيات الموقعة بينهما في مجال تشجيع وحماية الاستثمارات ومنع الازدواج الضريبي لاستقدام مزيد من رؤوس الأموال السنغافورية إلى عمان، أو للتعاون بين جهاز الاستثمار العماني والشركة السنغافورية للاستثمار المعروفة اختصارًا باسم تماسك TEMASEK، وهي شركة ذات سمعة عالمية واسعة وأصول وموجودات مالية هائلة.
أما في المجال العلمي فقد كانت هناك خطوة جيدة بإيفاد عدد من الطلبة العمانيين للدراسة في الجامعة الوطنية السنغافورية، وهي واحدة من أفضل الجامعات في العالم، لكن للأسف لم يكتب لتلك التجربة الاستمرار، وحيث إن عمان بحاجة إلى ابتعاث المزيد من الطلبة إلى الجامعات ذات المكانة العالمية العالية فإنه من المناسب إحياء تلك الخطوة بابتعاث المزيد من الطلبة العمانيين، سواء إلى الجامعات أو إلى المعاهد ومراكز البحث في سنغافورة.
ويستحسن أن لا يقتصر الابتعاث على المجالات الأكاديمية، بل أن يشمل العلوم التطبيقية والإدارة والاقتصاد. كما أنه من المناسب كذلك أن يتم تنشيط التعاون الذي بدأ بين الجانبين في مجالات حوسبة ورقمنة الإدارة والاقتصاد، سواء في أجهزة الدولة أو في القطاع الخاص. وبالإضافة إلى ذلك، هناك أيضًا آفاق واسعة ومجالات كثيرة للتعاون فيها بين البلدين، مثل التعاون في مجال صناعة الأدوية، وفي خدمات الموانئ، وفي علوم البيئة والتخطيط الحضري.
خلاصة القول إن الاقتصاد العماني بحاجة إلى بناء علاقات تفيده في عدد من المجالات، سواء في التحديث والتنويع، أو في مجالات جذب الاستثمارات وزيادة الصادرات، أو في الجوانب المتعلقة بالتنمية الإنسانية والتنمية الإنسانية وحماية البيئة، وحيث إن سنغافورة يمكن أن تصبح شريكًا موثوقًا لعمان، بفضل ما يرتبط به البلدان من علاقات عريقة وبما لدى سنغافورة من تجارب تنموية مشهود لها عالميًا، فإنه من المناسب في هذا الوقت الذي يتأرجح فيه الاقتصاد العالمي بين تعافٍ وضمور أن يتم تنشيط التعاون معها في شتى المجالات.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية