في القطيعة والاندماج عبر التاريخ!
حياة الشعوب والأمم حياة تاريخية ممتدة، تكتنفها تحولات وتغيرات، وربما حالات إفناء لكن لا أثر يُمحى من التاريخ ما دام الإنسان هو محل الأثر، وقادرًا على تخليد آثاره بكل العناصر، وفي هذا نعني أن ما تخلفه المجتمعات البشرية من تحولات في حياتها يظل مستمرًا سواءً أكان ذلك في الشكل والمادة أو في المعنى والمضمون.
اللغة والدين من عناصر التواصل التي تستمر مع الشعوب وتتعرض معها لحالات التأثير والتأثر والضعف والقوة، ففي حياة الأمم يصبح التاريخ مرآة الزمان التي تعرض عليها أحوال تلك الأمم. فاللغة أحيانا يتبدل اسمها فيما يبقى معناها موجودًا نتيجةً لأثر ديني أو حدث تأسيسي يتغير به حال الأمة الناطقة بلسانها لكن في الوقت ذاته يؤثر الحدث في اللغة فتتغير وفقًا للتماهي مع الحدث التأسيسي الذي يحدث لها. فاللغة السريانية كما يقول الصديق الباحث محمد الشحري: هي ذاتها اللغة الآرمية، لكن التحول الذي لحق بها في الاسم من الآرمية إلى السريانية كان سببه الرغبة في القطع مع الوثنية التي كان عليها حال المجتمع عندما كان يطلق على لغتهم اللغة الآرمية، ليتحول اسم اللغة بعد الدخول في المسيحية إلى السريانية.
تطور اللغات في التاريخ يخضع لقانون القطيعة والاندماج، مثل حال اللغة السبئية القديمة التي نزح بها السبئيون من قبائل «حبشات» و«الأجاعز» من اليمن بعد انهيار سد مأرب واتجهوا بها صوب الهضبة الحبشية قاطعين البحر الأحمر لتصبح اللغة الجئزية التي نشأت في الحبشة متحورةً عن السبئية، وقامت عليها حضارة أكسوم الحبشية العريقة. ثم بعد ذلك أصبحت الجئزية ذاتها، عبر مئات السنين، أمًا للغات ثلاث هي: الأمهرية - التقرينية - التقراييت - وهذه الأخيرة تنطق بها قبائل بني عامر والحباب في شرق السودان وغرب إرتريا.
حركة الشعوب في التاريخ حال فقد تلك الشعوب لغاتها أو اختفاء تلك اللغات لسبب أو آخر، تعكس غموضًا ينعكس على الواقع التاريخي لها بحسب وجود لغاتها من عدمها. هذا ما نجده اليوم مثلًا في انقطاع لغة الفراعنة عن التواصل اللساني البشري، فيما نجد حتى الآن وجودًا للغة السريانية في سوريا مثلًا، وللغة الآشورية في العراق، وهي لغات عاصرت اللغة الفرعونية.
الحال ذاته يصبح على نحو أكثر تعقيدًا مع حضارة مروي الكوشية التي امتدت من عام 800 ق م إلى عام 350 م. في شمال السودان (وهي حضارة تربَّع ثلاثة من ملوكها على عرش مصر كملوك للأسرة الـ25 في سلسلة الأسر الفرعونية التي حكمت مصر، والذين يعرفون بالملوك السودانيين) لكن ما تزال اللغة المروية لغةً يكتنفها الغموض، بالرغم من وجود أبجدية لها، وبالرغم من السحنة الكوشية التي ما تزال طابعًا تاريخيًا لأبوة شمال السودان لنسل كوش في العالم.
التاريخ حاضر يحضر في يوميات الأمم والشعوب ويعكس الهويات الباهتة لبقايا الطقوس والعادات القديمة التي تتخفف من حمولاتها المقدسة لتصبح فولكلورا كما هو حال المسيحية اليوم في المجتمعات الأوروبية الحديثة.
لقد كان الإسلام الصوفي للسودانيين من أعمق وأعظم المساومات التاريخية لدخول الإسلام في السودان، بعد أن توقفت جيوش عبدالله بن أبي سرح على حدود أسوان، واكتفت من النوبة ببنود اتفاقية «البقط» التي استمر سريانها لمئات من السنين. ففيما قضت بنود اتفاقية «البقط» التاريخية بأن لا يجتاز العرب المسلمون أراضي النوبة إلا عابرين دون أي إقامة، كان مفاد ذلك عزوف المسلمين عن عبور براري السودان الموحشة في ذلك الزمن إلا لمن لا مصلحة لهم في الدنيا كالصوفية الذين تسللوا للسودان ونشروا الإسلام بين قبائله ضمن مساومة تاريخية، أصبحت اليوم دالة سودانية. فتلك القبائل السودانية ذات العادات الكوشية الضاربة في القدم كطقس العبور، والطبول، البخور التي قبل الصوفية بعضها وأجازوه عادةً لهم ليضمنوا دخول السودانيين في الإسلام، فأصبحت الطبول والبخور - التي هي عادات زنجية قديمة - جزءًا من طقوس صوفية السودان نتيجة لتلك المساومة التاريخية التي ضمنت إلى جانب أن يدخل السودانيون بطقوسهم وعاداتهم في الإسلام أن يكون دخولهم في الإسلام دخولًا حرًا طليقًا ضمنَ لهم حريةً عبر التاريخ أبقتهم لقرون طويلة خارج منظومة الاستبداد التي بدأت مع الأمويين في المشرق العربي ولم تنتهِ إلا مع الأتراك في القرن العشرين!