في العـلمـويّـة..
لأنّ الإيديولوجيا قناعٌ أو تقنيع، وفعْـلٌ دارِجٌ على إتيان الحِـيَـل والمخادعات، فهي لا تُـفصـِح عن نفسها - دائـمــًا - إفصاحــًا إيديـولوجيّـــًا صـرفـــًا ومبـاشـرًا، أي من حيث هي إيديولوجيا، وإنّما تتـلبّس صُـورًا وأشكالًا أخرى تخفي فيها إيـديولوجيَّـتَـها و، بالتّالي، تُحقِّـق بواسطتها عمليّـةَ طمسِ حقيقتها كـوعْيٍ زائـفٍ أو غير مطابِـقٍ للموضوع الذي تتناوله. كنتُ قـد نبَّـهْـتُ، في مناسبات سابقة (ممّا كتـبْـتُه في الموضوع)، إلى أنّ الإيـديولوجيا - التي توضَع، دومــًا، في مقابل المعرفة: لاختلاف نظامِ كـلٍّ منهما- كثيرًا ما آثرتْ أن تقـدِّم نفسَها معرفـيّـــًا: أعني في صورةِ معـرفةٍ لا يُخطِئ تحليلٌ هويَّـتَها؛ وكثيرًا ما نجحت في أن تحْـصُد من إخفاء نفسها في المعرفة بريقــًا ولمعانــًا لا يأتيانها، في العادة، من نظام عملها الاعتياديّ كإيـديولوجيا فـتبدو، بذلك، وكأنّها نظامٌ لإنتاج المعارف مثلها مثل أيّ نظامٍ آخر: فلسفيّ، علميّ...، أو هكذا - على الأقـلّ - تتبدّى في وعْـيٍ سطحيّ -أو غـيرِ نـقـديّ- تنطلي عليه حِـيَـلُها! على أنّه في مسعاها إلى أن تَـطْمس مضمونَها الإيـديولوجيّ «كـلّـيّـةً»، قد تذهب الإيـديولوجيا إلى أبعد من تقـمُّـص المعـرفـة إلى تـقـمُّـص أعلى أشكال المعرفة موضوعيّـةً وحُجّـيَّـةً: العلم. هكذا هي حالُها، مثلًا، حين تُـفْصِح عن نفسها في شكل دعـوةٍ عِـلْمـويّـة.
العلمـويّة، بالتّعريف، نزعـةٌ إيـديولوجيّة فاقعة يأتيها في التّفكير مَن ليسوا علماء، ولكنّهم يذهبـون بتعظيم العلم إلى حدود التّـقـديس مجاوِزين العلماءَ أنفسَهم في درجة الإيمان به. إنّها اللّحظـةُ التي يجري فيها تحويـلُ العلم إلى إيـديولوجيا؛ إلى معـتَـقَـد Dogme يُـشاكِـل سائر المعـتَـقَدات التي ينـتحلها النّاسُ لأنفسهم. ترفع العلمويّـةُ العِـلْم إلى سلطانٍ معرفيّ مطلق لا تَـحُدُّ فاعليَّـتَـه حدود، ولا تُـفْـرَض على نجاعـته قـيود، الأمر الذي يتكرّس معه الاعتقاد الخاطئ بأنّ العلم مفـتَاحٌ لـكلِّ إعضـالٍ مُغْـلَـق وقـوّةٌ قادرةٌ على تفسير كـلّ ما أشْـكـل أمْـرُهُ وأَبْـهَم من ظواهـر الطّـبيـعة والوجـود الإنسانيّ. وليس هذا التّـقديـرُ للعِـلْم مـنَ العِـلْـم مَنْـشَـؤُهُ، بل هو برّانـيٌّ عن العلم والعلماء، محمولٌ من خارجٍ إلى بيئاتٍ لا تقول به. إنّـه، بكلمة، فعْـلٌ إيـديولوجيّ صرْف ينهض به وعـيٌ متـشبِّـع بفكرة الحقيقة وبوهـم القدرة على تحصيلها بمعرفـةٍ جديدة اعْـتيـض فيها عن الفلسفة بالعـلم.
العلمويّـةُ دخيلةٌ على العلم؛ ليست منه ولا من أفكار العلماء وأوهامهم، وإنّما هي ممّا قالت بـه تيّاراتٌ فلسفيّة حديثة فانتحلتْها لنفسها عقيـدةً فكـريّـةً جديدة، في الوقت عينِـه الذي كانت فيه تلك التّيّـاراتُ شارعةً في فـكّ ارتباطـها بالفلسفة، جانحةً للصيرورة ميادينَ معرفيّـةً جديدة مشيَّـدَةً على القواعـد عيـنِـها التي تقوم عليها علوم الطّبيعـة! هكذا كانت الدّاروينيّـة الاجتماعيّـة مع هربرت سپنسر و، قبلها، هكذا كانت الوضعانيّـة مع أوغست كونت فلسفـتـيْـن تُركِّـبان بطّاريةَ العِـلْمِ في جهازهما المـعـرفـيّ فتـنصرفان إلى محاكاته (أي العِـلـم) وتقـليـدِهِ نحوًا من التّـقـليد الرّثّ. لم تـكن عـلمـويّـةُ هاتـيـن الفلسفـتـيْـن مجرّدَ طريقةٍ للتّـنكّـر لماضيهما الفلسفـيّ، وإبـداء استعلاءٍ معرفيّ على طرائق الفلسفة في تناوُلها موضوعاتها (وهو ما عبّر عنه تحقـيب أوغست كونت لمراحل التّـفكير الإنسانيّ واعتباره مرحلةَ التّـفكـير الميتافيزيقـيّ دون المرحلة الوضعيّة قيمةً)، وإنّما هي انطوت على وهْـمٍ بإمكان تأسيس عـلومٍ للمجتمع والإنسان تُـطبَّـق فيها مناهـجُ علوم الطّبيعة، ويَـتوصّـل فيها البحثُ إلى النّـتائـج العلميّـة ذاتِـها المتـحقّـقةِ في العلـوم من حيث دقَّـتُها وموضوعيّـتُها ومطابقـتُـها لموضوعات الدّرس... إلخ!
من المعلوم لدى الدّارسين أنّ هـذه الدّعـوة الوضعانيّـة إلى إقامة علوم الاجتماع والإنسان على مثال علوم الطّبيعة واستنساخ نموذجها المنهجـيّ تصطدم بامتناعٍ موضوعيّ يَحْمـل عليه ما بين موضوعات هـذه العلوم (الطّـبيعيّـة والاجتماعيّـة) من بَـوْنٍ ومن اختـلافٍ وتَـمـايُـز. إذا كانت موضوعات العلوم التّجريبيّـة (بيولوجيا، جيولوجيا، فيـزياء، كيميـاء...) تَـقْـبَـل الخضوع للملاحظة العلميّة والاختبار التّجريبيّ، واشتـقاقَ قوانينها الحاكمة...، فلأنّها صمّاء: وليست تلك حالُ ظواهر الاجتماع الإنسانيّ التي هي واعـية، في المعظم منها، وليس فيها -بالتّالي- ما يجعل لقانون الحتميّـة مكانٌ في نظامها. وإلى ذلك، يختلف موقع الدّارس في هـذه العلوم وفي تلك تبعــًا لاختلاف طبيعة موضوعاتها؛ تَـفرض موضوعيّـةُ الظّاهرة الطّـبيعيّـة على دارسها حيادًا تـلقائيّـــًا تجاهها، لاستقلالها عنه، أمّا دارس الظّاهرة الاجتماعيّـة والإنسانيّة فليس محايدًا، أَلْـبَتَّـةَ؛ لأنّ موضوعَـه منه وليس مستـقلاًّ عنه. لذلك ينعدم إمكانُ قيام معرفةٍ موضوعيّة بظواهر المجتمع والإنسان نظيرَ تلك التي نُـلْـفيها في علوم الطّبـيعة، مثلما يمتنع -إلى الحـدّ الأبعـد- التّعبيرُ بلغة الكـمِّ الرّياضيّـة عن تلك الظّواهر الواعية التي تـتعصّى على التّـكـميم أو الصّـيـاغـة الرّيّـاضـيّـة.
ما من أفـقٍ، إذن، أمام العِـلمـويّة وأمام أوهام دعوتها إلى تصيير العِلم دينــًا جديدًا - أو مـا يـشـبـه ذلك - تَـحْـكُم شريعـتُه ظواهـرَ الوجود جميعــًا؛ إذْ ليس كـلُّ شـيءٍ قابـلًا للدّرس العلميّ، خصوصــًا حينما يكون هذا «الشّـيء» كائنــًا مـدرِكــًا ذا إرادة (الإنسان) لا تنصاع أفعالُه الواعية/الإراديّـة للقياس العلميّ: التّجريبـيّ والرّياضيّ. وما من شيءٍ تقترحـه العلمـويّـةُ علينا سوى إسقاط أبعادٍ أخرى في التّـفكـير والإبـداع الإنسانيّ مثل العـقل والخيال والتّـأمُّـل؛ وهي فعاليّات ذهنيّـة ونفسيّـة ظلّت ملازمـةً للنّشاط الإنسانيّ عبر التّاريخ، وإسقاطُها معناهُ إلغاءُ كـلِّ شيءٍ صَـنَع الحضارة الإنسانيّـة: الدّين والفنّ والأدب والفلسفة...إلخ! إنّه البـؤسُ الفكـريُّ بعينه هذا الذي تعبّـر عنه العلمويّـة وتَـدْفع من أجله. ومن عجبٍ أنّ هذه الإيـديولوجيا اللاّبسة لبوسَ العلم تنتعش في أزمنـةٍ يقيم فيها العِلـمُ نفسُـه الدّليلَ على محدوديّـة نتائجه ونسبـيّـتِـها، ومحدوديّـةِ ما يستطـيعـه حتّى في دائرة موضوعاتـه الخاصّـة به. وتلك مفارقـةٌ صارخة تكشف عن نقائـض هذه الإيـديولوجيا المتنكّـرة في هيـئـة عِـلـم!