في الذكرى العشرين للحرب على العراق: هل المجتمع الأمريكي شريك مدان؟
من السهل أن نقرأ السياسة الخارجية التي تتبناها دولة شمولية تحتكر اللعبة السياسية في مركز معين ومكثف من السلطة دون أن نتهم الشعب «المغلوبَ على أمره» بأنه شريك في صناعة القرار الذي قد يدفع بجيش بلاده لأن يتدخل في مصير شعب آخر. وربما تكون هذه «البراءة الشعبية» هي آخر حسنات الدولة الشمولية التي ستمنح الألمان بعد سقوط النازية مع نهاية الحرب العالمية، كما تمنح الطليان بعد سقوط الفاشية فرصة أن يقولوا للعالم: نحن لا دخل لنا. كنا مجبورين. كنا ضحية محلية للحكم الديكتاتوري في بلادنا !
بخلاف ذلك، نجد أن الوضع أكثر تعقيداً في التعامل مع الأنظمة السياسية ذات الهرم الديمقراطي؛ وذلك عندما نحاول فهم محركات الداخلية للسياسة الخارجية والرأي العام الذي يمهد للقرار ويرعاه ويعقبه في دولة تتوزع فيها السلطات أفقياً وعمودياً كالولايات المتحدة التي يتمتع شعبها بمشاركة سياسية تؤهله لاعتبار نفسه «أكثر شعوب العالم تحضراً وحرية» في ظل تمثال الحرية وواحة الديمقراطية. لكن المبدأ ذاته هو ما يدفعنا اليوم لنعيد السؤال المؤجل والموارب عن المسؤولية الأخلاقية والإنسانية التي تقع على عاتق المجتمع الأمريكي من جراء التدخلات العسكرية لجيش بلاده في بلدان «العالم الثالث» وفي مقدمتها العراق الذي يتذكر ونتذكر معه في هذه الأيام عشرين عاماً من سقوط بغداد تحت طائرات ودبابات المغول الجدد، في حرب همجية سقط على مدار سنواتها الثمان قرابة مليون قتيل عراقي وما يزيد عن 4000 جندي أمريكي وفقاً للتقديرات العسكرية. فإلى أي مدى ساهم المجتمع الأمريكي في تغذية شهوة الإدارة الأمريكية للحرب قبل وقوعها، وإلى أي مدى رعت النُخب الثقافية والأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني (التي يطلق عليها بول بريمر «مؤسسات امتصاص الصدمات») الحملة ضد العراق؟! وهل يكفي اعتبار الشارع الأمريكي ضحيةً لأحابيل الأكاذيب والتضليل الإعلامي، التي دأب على نسجها فريق بوش وتشيني ورامسفيلد وبول، سبباً كافياً لتبرئته التاريخية من جريمة الحرب على العراق؟! أليس الشعب الأمريكي في المقابل هو من أكثر شعوب العالم تطوراً في حريات التعبير والإعلام وأكثرها تقدماً في معدلات التعليم الجامعي؟! فكيف نفسر فشل المجتمع الأمريكي في كبح جماح الجمهوريين المتنطعين للحرب بالرغم من كل هذه الامتيازات والحريات التي يتباهى بها دون أن تكون هذه الامتيازات سبباً كافياً لإدانته، وكيف نفسر قبل ذلك وصول هذه الزمرة المسعورة للبيت الأبيض؟!
تشير دراسة إحصائية صدرت الأسبوع الماضي عن «مركز بيو للأبحاث» إلى أن الرأي العام الأمريكي كان متحمساً «بشكل غير عادي» لاحتمال استخدام القوة العسكرية في سياق ما أسماه بوش «الحرب العالمية على الإرهاب» بعد أحداث 11 من سبتمبر. أما عن الاعتقاد الذي كان سائداً قبل أشهر قليلة من الحرب فتشير الدراسة إلى أن أغلبية كبيرة من الأمريكيين كانت تعتقد بأن العراق إما يمتلك فعلاً أسلحة دمار شامل أو كان على وشك الحصول عليها، مع الاعتقاد بأن صدام حسين كان شخصياً متورطاً في هجمات 11 سبتمبر. بل كان الأمريكيون مستعدين لتصديق ما هو أسوأ بشأن نظام صدام، كما تقول الدراسة، ففي استطلاع للرأي أجري قبل أسابيع قليلة من إعلان حالة الاتحاد بدا أن 73% من الأمريكيين مؤيدين لضرورة العمل العسكري في سبيل الإطاحة بصدام، بينما عارض 16% منهم فقط. في حين أكد 56% منهم على أهمية أن تمضي الولايات المتحدة في إجراءاتها ضد العراق «حتى لو كان ذلك يعني أن القوات الأمريكية قد تتكبد آلاف الضحايا». كل هذه الأرقام والإحصائيات يجب ألا تمر سهواً في كتابة تاريخ هذه الحرب.
مع ذلك، يبدو من المقبول نسبياً أن يتبرأ المدنيون في أمريكا من الحرب التي أصبحت بالنسبة لهم مجرد ماض ملتبس ومشوه في علاقتهم بتاريخهم الوطني. ولكن كيف لنا أن نتقبل الصفاقة التي يتبرأ بها من حرب جنود أمريكيون عائدون من مدن العراق المدمر ومعتقلات أبو غريب... بل عندما يتجاوزون ذلك ليقدموا أنفسهم كضحية جديدة على حساب العراقيين في أفلامهم ومذكراتهم الشخصية!
عدتُ لمقالة مطولة ومهمة للشاعر والروائي العراقي سنان أنطوان، كان قد نشرها قبل عشر سنوات بعنوان عن «العراق؛ من ناظور جندي أمريكي»(2) هو بريان ترنر الذي عاد من الحرب شاعراً بمجموعة شعرية «تصوّر عنف الحرب بالطبع، إلا أنها لا تسائل الحرب نفسها ولا المناخ والأيديولوجيا التي أنتجتها. فهي تؤنسن الجندي فيصبح هو الضحية. وتؤنسنه على حساب المدني العراقي الذي لا يملك خيار عدم الذهاب إلى الحرب والذي يقبع على الجانب الآخر من الماسورة أو فوهة المدفع كهدف». المُلفت هو إشارة سنان أنطوان المهمة لعلاقة الجيش الأمريكي بالمجتمع، ولحقيقة تفيد بأن التجنيد الإلزامي في الولايات المتحدة كان قد ألغي منذ العام ١٩٧٣، مما يعني أن قرار الالتحاق بالجيش هو قرار شخصي تطوعي. ولكن من الواضح أننا في العالم العربي مشغوفون كثيراً بالاستشهاد بأمثال بريان ترنر أو مايك بريزنر من باب «وشهد شاهد من أهلها»، غير أن هذا لا يخفي حقيقة أن هؤلاء الجنود التائبون كانوا قد ذهبوا للحرب قبل عشرين عاماً بكامل إرادتهم. من المقبول أن نتبنى فصل «الدولة» عن «الشعب» عندما نتعامل مع دولة تهيمن على حكمها أقلية معينة أو حزب سياسي وحيد. فقد نقنع بالنقد الذي يطرق خطابها الرسمي الحصري وحده عندما يتعلق الأمر بممارساتها العلنية خارج حدودها الجغرافية، كالحروب التي تشنها أو تدخلاتها الخارجية في دول أخرى، دون أن نُعنى بالسؤال عما إذا كان الشعب بمختلف مكوناته شريكاً متواطئاً أو راعياً للعنف الذي تمارسه الدولة باسمه على شعب آخر في مكان آخر بعيداً عن أراضيها. ويأتي هذا الفصل بين القرار الرسمي والموقف الشعبي على اعتبار أن صناعة القرار في دول كهذه -كحال سائر الأنظمة الاستبدادية في التاريخ القريب أو البعيد- هي عملية أحادية تحتكرها السلطة المهيمنة، حيث ينظر هذا النوع من النقد إلى المجموع الشعبي كضحية جماعية معزولة عن المشاركة السياسية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بقرار الحرب أو السلم أو بالقضايا الاستراتيجية الكبرى. المفارقة هي أن هذا النوع من الخطاب الذي يمارس فصل النظام السياسي عن مكونه الشعبي هو الرائج في تعامل الولايات المتحدة اليوم مع الإيرانيين. كما نشهده في تعامل الولايات المتحدة مع الروس خلال حربهم على أوكرانيا، فهي لا تكف عن تبرئة الشعب الروسي من سلوك الجيش الذي دفع به بوتين إلى الحرب، وهذا ما لمَّح له الرئيس الأمريكي جو بايدن في رسالة مغلفة وجهها من وارسو إلى الشعب الروسي في مارس من العام الماضي: «اسمحوا لي أن أقول هذا، إذا كنتم قادرون على الاستماع: أنتم أيها الشعب الروسي لستم أعداءنا... أرفض أن أصدق أنكم ترحبون بقتل الأطفال والأجداد الأبرياء، لا أصدق أنكم تقبلون تدمير المستشفيات والمدارس». وهو الخطاب ذاته الذي خاطبت به الولايات المتحدة العراقيين قبل عشرين عاماً وإن اختلفت النبرة الأمريكية بين الزمنين: «نأتي إلى العراق والاحترام يحدونا لمواطنيه ولحضارته العظيمة ولمعتقداته الدينية التي يمارسونها، ليست لدينا أي مطامع في العراق سوى أن نزيل التهديد ونعيد السيطرة على تلك الدولة إلى شعبها» هذه كانت رسالة بوش إلى الشعب العراقي عشية اجتياح القوات الأمريكية للعراق في 20 مارس عام 2003. هي سياسة تقوم على تعزيز حالة الشك بين الفرد والجماعة، بين النظام والشعب، من أجل استثمارها على المدى الطويل في صراعات وحروب قادمة. لذا لا تكف الولايات المتحدة عن إعلان انحيازها لشعوب العالم الثالث ضد أنظمتها القمعية، آخذة على عاتقها مسؤوليتها الأخلاقية والحضارية في تعميم الديمقراطية على دول المنطقة كرسول الحرية إلى عالم الجديد... لكن بوش الابن يتواضع بعد أشهر من «تحرير العراق» على رؤوس العراقيين: «الحرية التي نمنحها ليست هدية أمريكا للعالم. إنها هبة الله للبشرية»!
سالم الرحبي شاعر عماني