في الدراما السياسية العربية..
ليس غريبا فيما يرصده المراقب لمجريات الفعل السياسي في المنطقة العربية؛ أن ثمة اغترابا بين ذلك الفعل بوصفه جزءا من الحياة، وبين مثالاته المجازية الممكنة في الفنون الموازية له عبر الخيال الدرامي، أي ذلك العالم الذي تقتضي صناعة الترفيه فيه حريةً واستقلالية كبيرة، وقواعد ارتباط منفكة عن أي تشابه مريب قد يفترضه اقتران شرطي في الذهنية العامة لمن يعيشون في المنطقة العربية حيث تنعدم تقريبا الخطوط الفاصلة بين الفعل السياسي الواقعي وبين تمثيلاته في عالم الفنون كالسينما، مثلا.
ذلك أن عملية فك الارتباط تلك؛ بين واقعية العمل السياسي الصلب وبين تمثيلاته في الخيال الفني لا تزال واقعةً تحت محاذير كثيرة نظرا لعجز الوعي العام عن ذلك الانفكاك بين ما يمكن فهمه كنقد درامي للسياسة تقتضيه تقاليد مستقلة في الفن، وبين ما يمكن اعتباره تأويلا للانتقاص من رمزية الفعل السياسي بالضرورة.
إن ما تعانيه الدراما السياسية في المنطقة العربية (ناهيك عن الكوميديا السياسية) من عدم قدرتها على إبداع دراما سياسية موازية لواقع الفعل السياسي، لا تفسره لنا المقارنات حول تاريخ السينما العربية وعراقتها الممتدة لأكثر من 80 عاما، وإنما يندرج في معوقات الوعي الطبقي للسياسة بوصفها اشتغالا في تاريخ منفك عن عقود السينما العربية، بحيث تقتضي معالجاته غوصا في قرون طويلة.
وفي هذا المجال تحديدا، حيث يعجز العقل السينمائي العربي عن معرفة الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفن حيال مقاربة السياسة فنيا؛ نقع على تلك المسافة التي تفصل سينما أسئلة العرب قرونا عن أسئلة السينما العالمية حين تعالج السياسة بالفن! وهذا سيحيلنا بالضرورة إلى معنى الهشاشة الذي يقيم في الظل من العلاقة بين النقد السينمائي للسياسة بوصفه جزءا من الفنون والآداب، وبين الامتناع الذي يهيمن مثل التابو فيجعل من أي خيال سينمائي يقارب السياسة خيالا معطوبا ومفخخا بالأسئلة المريبة! قد تبدو الأفلام السياسية العربية (وهي تعد على أصابع اليد) إذ تجعل من الرموز السياسية بديلا لموضوعة السياسة، كما لو أنها أقرب للمديح منها إلى أي أحدوثة لمعنى السينما ومعالجتها التي تختبر وجوه الحياة.
بطبيعة الحال ثمة أفلام عربية تقارب موضوعة السياسة لكنها تظل معزولة في الظل وضمن الأطر الضيقة لهوامش سينما الموضوعات، أو سينما المهرجانات الأوروبية، أو حتى سينما الهواة، دون أن تدخل المجال العريض لسوق السينما العربية على غرار أفلام لشخصيات سياسية عربية مشهورة، ما يعني، عمليا، وأدًا لذلك النمط من التعبير السينمائي غير المرغوب فيه.
وفي زحمة العطب الكياني المانع من ترميز مشكلات السياسة في الخيال السينمائي، لا ينجو أبدا مغزى الفن السينمائي النبيل بوصفه ضميرا لمرآة السياسة، من الهجاء والنبذ، ناهيك عن أن يكون معنى جماليا يحتاجه الفرد لشحن الحواس! وإلى حين فك الارتباط بين ضرورة اليقين بهوية الدراما السياسية كفن مستقل لترقية الحياة، وبين القياسات الفاسدة لذلك الفن على مفردات السياسة ورموزها الواقعية في إحالات العقل الجمعي، سيظل مقياس الفرق شاسعا -كما هو في الحقيقة- بين السينما العربية والسينما العالمية.
وفيما تفصل السينما العربية عقودا بحساب الزمن عن فيلم «الأزمنة الحديثة» لشارلي شابلن (عُرضَ الفيلم الصامت في ثلاثينيات القرن العشرين) يمكن القول إن هناك مساحة حضارية بحساب القرون هي الأرجح تعبيرا عن الفرق! السينما مرآة المجتمع (بحسب العبارة الشهيرة) في تعبيراتها التي أصبحت اليوم هوية الأزمنة الحديثة وهمومها، وإذا ما بدا أن ثمة غائبا أكبر في تلك المرآة العظيمة للمجتمعات العربية اليوم فهو موضوعة التعبير السياسي وحاجة تلك المجتمعات للنظر إليه كفن!
إن فيلم «الأزمنة الحديثة» الذي يعتبر من كلاسيكيات السينما العالمية، بالرغم من صمته، ظل يحمل معنى عميقا لأثر السياسة على الناس، وكان إصرار شابلن على جعل الفيلم صامتا -رغم إمكانية أن يكون الفيلم ناطقا- رسالة بكل لغات البشر لمغزى أن يكون التعبير عن هموم الناس في المجال العام جزءا من وعيهم الإنساني والتنويري. وبحسب الناقد الفرنسي رولان بارت فإن «شارلو يموضع هنا نفسه ما دون الوعي السياسي... ليصل إلى اللحظة التي يتطابق فيها البروليتاري مع الفقير أمام عيني رجل الشرطة وتحت وقع ضرباته».
محمد جميل أحمد كاتب من السودان