في الحـق ومشروعية الدولـة
وضعتْ فـلسفـةُ العـقـد الاجتماعي أسسا نـظريـة لفـكرة الحـق، بمعـناها الزمـني الإنسانـي - وقـد غابت في الفـكر المسيحي طَوال العصور الوسطى - على نحوٍ بـررتْ لها مشروعـيَـتها كـفكـرة ورسمت لها دورا في الهندسة الجديدة للدولة والنـظام السياسي الحديث ولمنظومة المواطَـنة فيها؛ التي هي الأس الأساس في نموذج الـدولة الحديثة وفيصلُ التـفرقـة بينها والـدولة التـقـليديـة في القرون الوسطى. ولقد يجوز أن يقال، بـقـدرٍ مـا من اليقـين، إن الفـلسفة السـياسيـة الحديثة وحدها تُـطْـلِعنا على التـلازم المفـاهيـمي والإشكالي بين الحـق والـدولة؛ وهو التـلازم الذي يَـدُلُـنا على أنه ما من إمكانٍ لحيازة حـقٍ للإنسان إلا متى متَّـعتْـه الـدولةُ به وحـمَـتـهُ وأحاطتـهُ بالرعاية القانونيـة، كما أنه ما من إمكانٍ - في الوقت عـينـه - لقيام دولةٍ وطـنيـة من دون أن تـكون مسألـةُ الحـق أَوْلَـى أولويـاتها في ما تـنهض به من وظائف في نطاق وَلايتها السياسيـة على الجماعة الوطنيـة التي تقـوم فيها. ولما كان مثـلُ هذا التـلازم مما كان يُـلْحَـظ، بـيُسْـرٍ، لدى فلاسفة العـقـد الاجتماعي فـقد صار شأنـا في حكم البديهة في هذه الفـلسفة السياسيـة في لحظـةٍ منها نـقـديـةٍ وتجريديـة مثّـلـتْها فـلسفةُ هيـغـل ونظريـتُه في الـدولة والحق مطالع القرن التاسع عشر، وذهب فيها التـشـديدُ على ذلك التـلازم إلى حـدوده النـظريـة القصـوى.
على أن فصْـل الحـق المـدني عـن «الحـق الإلـهي» - الذي قالت به الكنيسة وكان عليه مبْـنى السلطة في أوروبا الوسطى - بـدأ في الإفصاح عن نفسـه، في فـلسفـة السياسة، انطلاقًا من الفـرضيـات التي توسـلها توماس هـوبس وفـلاسفـةُ العـقـد الاجتماعي ليَـبْـنوا عليها فـكرتهم عن ذلك العـقـد وعن حاجة الاجتماع الإنساني إليه من أجل الصـيرورة اجتمـاعا سيـاسيـا، أي دولة. يُـشار في تلك الفـرضيـات المؤسِـسة (وأهـمـها فرضيـةُ وجود حالةٍ سابقة لقـيام الـدولة أُطلِـق عليها اسم حالة الطـبيعة) إلى أن النـاس تمـتـعوا، دائـمًا، بالحـق الطـبيعي لدى كـلٍ منهم في نطاق حالة الطبيعة أو المجتمع الطبيعي قـبل - السياسي. النـظام الطبيعي، في هذه الفلـسفة، ليس قائـما على قـوانين ذاتيـة صارمة فحسب، بـل هـو أيضا يمنح المنتمين إليه حقوقـا بالتـلقـاء لمجـرد أنهم منْـوَجدون داخل نظام الطبيعة. هكـذا نُظِـر إلى الحريـة، مثـلاً، وإلى المُـلْكيـة أو التملك بوصفها حقوقا طبيعيـة للناس، أي ممنوحة لهم من الطبيعة، لذلك ازدهر في الفـلسفة السياسيـة الحديثة استخدام مفهوم الحق الطبيعي بوصفه مرادِفا لكل حـقٍ لا يَـقْـبل الانتهاك لأنـه قريـنُ الكينونة الإنسانيـة، ولأن نزعه عن الإنسان نـزْعٌ لإنسانيـته ومجافاةٌ للطبيعة التي قضت بأن تُـمَـتِّعه بذلك الحق.
لم يكن يكفي فلاسفةَ السياسة المحدَثين أن يدافعوا عن مبدأ الحق الطبيعي وأن ينظِـروا له، بل كان عليهم أن يستدركوا بالقول إن مشكلة هذا الحـق الطبيعي تكمـن في أنـه ليس مضمونا في النـظام الطبيعي ولا مأمونا من الانتهاك الذي يأتيه الناس بعضُهم البعض في سياقٍ من التـنازُع بينهم على أشياء يَـعُـدُّها كـلُ واحدٍ منهم متاعا له خاصا لا يزاحمُـه فيه أحـد، وفي سياقٍ من الصـراع المحتـدم بينهم على احتكار القـوة. إذا كان لحيازة شيءٍ ما بالقـوة من شخصٍ بَسَـطَ عليه يـده نقضا للحق في المـلكيـة - الذي هو أَوْكـد الحقوق في نظر جـون لوك - فإن لِـفرْض إرادة آحاد الناس على آخَـر وإخضاعه، وربـما استعـباده، المعنى عـينه؛ إذْ فيه نـقْضٌ رديفٌ للحق في الحرية. في الحاليْـن، يجري النـقض بمقتضى إعمال مبدأ القـوة في العلاقة داخل المجتمع الطبيعي (قبل السياسي)، لأن القـوة هي القانون الحاكم لمثـل هذا المجتمع. وهكذا، نظرا إلى انعدام سلطة رادعة في هذا المجتمع: تَحْـفـظ الحقوق وتردع المخالفات، لا يبقى لأعضاء الجماعة الطبيعيـة غير قُـواهُم الذاتيـة يدافعون بها عن أنفسهم. ومع أن الطبيعة تمنح الناس المَلَـكَات (البدنـية والذهـنيـة) عينَها - كما يقول هوبس ولوك - فيكونون، لهذا السبب، متكافئيـن في الاستعدادات، إلا أن هذا التـكافؤ نسبي جـدا؛ ذلك أن القوي اليوم لا يضمن أن يبقى قويـًّا دائمًـا، والأقـل قـوة - في مبـدأ عـمره مثـلاً - ذاهـبٌ نحو أن يصبح قـويًّـا في ما بعد. هكذا لا يسمح مبدأ القـوة الطبيعي الفردي بأن يحميَ الحـق الطبيعي للجميع فـيُحتاج، حينها، إلى قـوةٍ أخرى، من خارج النـظام الطبيعي، لتضطلع بذلك باسم المجموع.
من البيـن أن فلاسفـة السياسة إذْ ينظرون، نظرةَ إيجابٍ، إلى الحـق الطبيعي بما هو مكتَسَب ثمين يكـتسبه جميعُ مَـن ينـتمي إلى النـظام الطبيعي، لا يُخفـون شعورَهم بأن ما يتـهـدَد هذا الحـق هو سوءُ استخدام صاحبه له، وجشعُـه ورغبـتُه المجنونة في بسْط اليـد على كل ما يحْسبُـه في جملة متاعه. ولما كان هذا المنزع عاما ومشتركا لدى المنـتمين إلى المجتمع الطبيعي جميعا، ترتبَ عن ذلك تعطيلُ ذلك الحق جملةً وعُسْـرُ تحقـيقه لديهم، على النحو الذي يصير معه وكأنـه في حكم الحق المعدومِ إمكاناً! والنـتيجة أن عُسر التـمتُع بذلك الحـق، داخل الجماعة الطبيعيـة، يتمظهر في شكل نزاعات ومجالَدات لا تنتهي بين الناس أطلق عليها هوبـس نعت الحرب الدائمة أو حرب الجميع على الجميع؛ وهي حربٌ يُـنْـتَـقَـضُ بها أهـمُ قانونٍ من قوانين الطبيعة: قانون حِفظ النوع الإنساني، ويستدعي خطرُها حلاً وجوديـًّا يتفاداها بمقدار ما يحفظ الحقوق الطبيعية نفسَها من التـبدُد والزوال.
يتعلق الأمر في هذا، إذن، ببناءٍ فلسفي افـتراضي الغرضُ منه التسويغُ للـدولة ولوجوب قيامها وتبريرُ مشروعيـتها في الاجتماع الإنساني، وبيانُ معنى الحاجة إليها من أجل منْع الناس بعضهم عن بعض وردْع ما يأتونه من انتهاكات، ومن أجل حماية الحـق الطبيعي لكل إنسان وتوفـير ما لا توفِـره الطبيعةُ من ضماناتٍ لاحترامه وعدم النيل منه. وهكذا فالحـق الطبيعي، وإنْ كان سابقا في الوجود لقيام الـدولة، يظـل عرضةً لخطر الزوال إلى أن يقوم مجتمعٌ سياسي يتعهـدهُ بالصـون والرعاية.