في أنّ الحرية والدولة متلازمتان
لا تذكر الحرية إلا في تلازم عضوي مع الدولة. لا مجال للممايزة والفصل بينهما في الواقع التاريخي، كما في النظرية السياسية و-تحديدا- في الفلسفة السياسية بدعوى أن الحرية تقترن بالفرد، في المقام الأول، وأن لهذا حقوقا خاصة لا ينال منها انتماؤه إلى الدولة وانتظامه في مؤسساتها. مثل هذا التمييز والفصل بين حدي الحرية والدولة، الفرد والمجتمع يمكن له أن يعبر عن نفسه في ميدان فلسفي ميتافيزيقي صرف يسمح بـالتـأمـل المجـرد في هذه الحدود، مثـلما يسمح بتـذويت الحرية (= ربطها بالذات/الذوات) وعدم النظر إليها بوصفها علاقة اجتماعية أو سياسية تتجاوز الفرد إلى المجتمع والدولة. لكن هذا الضرب من التفكير فيها لا يجوز في الفلسفة السياسية إذا كان يجوز في الميتافيزيقا؛ إذ لا تعنى فلسفة السياسة إلا بالحرية التي هي، بالتعريف، ظاهرةٌ سياسية.
حين نضع المسألة على هذا النحو، لا يبقى ثمـة مبرر لاصطناع تعارضات بين الفرد والدولة، الحرية والقانون. كل خطاب يردد يقينيات بائدة من قبيل أن الدولة تنتصب كابحا للحرية أو عائقا أمامها، أو من قبيل أن الفرد مقـيدٌ من المجتمع والدولة بقيود تكبل حريته، أو من قبيل أن قمع الحريات أصبح يمارس باسم القانون أو الإرادة الشعبية... إنما هو خطابٌ لا يقيم تمييزا، البـتة، بين الحرية والفوضى بل يعيش على الخلط المفهومي بينهما؛ الخلط الذي بدأ يطل على الفكر السياسي الأوروبي منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع جيل الليبرالية الرابع، الذي كان الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل من أظهر رموزه. وهذه مناسبة للقول إن حمل الحرية على معنى الفوضى، في هذا المفهوم الليبرالي المتطرف، أتى يمثـل ردة فكرية عن مجمل التراث الفلسفي الحديث منذ منتصف القرن السابع عشر، وعن فكرة التلاؤم في ذلك التراث بين الحرية والدولة.
ليس من تناقض بين الحرية والدولة إلا في وعي يفردن الحرية (= يربطها بالفرد حصرا) ويحسبها شأنا يخص الذات، ويتعلق بالعالم الباطني (= الجـواني) للمرء؛ وهـذا- بلا زيـادة ولا نقـصان- هو النظر إليها بمفردات الميتافيزيقا، أي بما يجردها من كل الأبعاد المجتمعية والسياسية. ولكن سرعان ما يرتفع التناقض المزعوم ويمحي ما إن ننظر إلى الحرية في تجسداتها العامة، أي بوصفها علاقة سياسية. يكفي أن تعرف بأنها ظاهرة سياسية ليدرك- على الفور- أنها متصلة بالدولة شديد اتصال: أليست الدولة آلة السياسة ومـركزها الذي ترتبط به - وتنـشد إليه- ظواهر السياسة كلها... والحرية في جملتها؟ وهكذا يأخذنا تعريفها بأنها ظاهرة- أو علاقـة- سياسية إلى التسليم بأن الدولة هي حاضنتها وإطارها المرجعي والميدان الذي تتحقق فيه ولا ميدان آخر غيره. بل إن تعريفها على ذلك المقتضى هو الذي يعصم وعينا من النظر إليها في أطر أخرى ليست أطرها، على الحقيقة، مثل الذات أو الجماعة أو حتى المجتمع؛ أي تلك الأطر التي تفترضها الميتافيزيقا أو الأنثروپولوجيا السياسية فضاء نشأت فيه الحرية، فتودي بوعينا بها إن هو ركبها أو تأخذه بعيدا عن نطاقها الطبيعي.
والحق أن وراء القول بتعارض الحرية والدولة خلفية فكرية ذات سمت أنثروپولوجي تبرر القول ذاك، أو تسعى إلى أن تلتمس له المشروعية. من يفترضون أن الدولة والقانون يضربان القيود على الأفراد والحريات يصدرون، في تفكيرهم، عن مسلمة تقول: الفرد والمجتمع سابقان للدولة في الوجود، وأنهما تمتعا- قبل قيام الدولة - بقـدر كبير من الحريات لم يقع حـدٌ منها إلا بعد تكون الدولة ومنظومات القوانين فيها. ولقد ساهمت فلسفة العقد الاجتماعي- مع معظم فلاسفتها ماعدا هوبس- في ترسيخ هذا المعتقد، على الرغم من أنهم - خلافا لأنثروپولوجيا السياسة المعاصرين- أسندوا إلى الدولة أدوارا حيوية وحاسمة في إعادة هندسة الاجتماع الإنساني على قوام جديد يحفظ له حقوقه وبقاءه.
كنا قد انتقدنا هذه النظرة الأنثروپو- سياسية في كتب سابقة (الدولة والمجتمع؛ وفي الدولة: الأصول الفلسفية؛ والجماعة السياسية والمواطنة)، وحاولنا تفنيد منطلقاتها بالتشديد على الحقائق التي تـذهل عنها فرضية سابقـية الفرد والمجتمع للدولة: الفرد ليس معطى طبيعيا، بل هو منتوج سياسي أنتجتـه الجماعة السياسية (بعد أن كان مغيبا في الجماعة الطبيعية: جزءا من قبيلة أو عشيرة أو عائلة لا كيانية ذاتية مستقلة يتمتع بها داخل هذا النظام الجمعاني التقليدي)؛ وأن المجتمع قبل الدولة لم يكن مجتمعا، على الحقيقة، وإنما كان قطيعا بشريا غير منظم وأن الدولة، فقط، هي مبدأ تنظيمه ومبدأ إخراجه من اجتماع طبيعي (واجتماع أهلي) إلى اجتماع سياسي؛ أي هي من أعاد تأسيسه بما هو مجتمعٌ منظم، محكوم بقوانين وتقوم فيه سلطة. ولكن النـظرة الأنثروپو- سياسية تلك - التي انتقدناها - ما تفتأ، من أسف شديد، تفشو فشوا مهولا ويتسع تأثيرها نطاقا في الوعي في سياق موجات العولمة الجارفة، التي تأتي- في جملة ما تأتي عليه- على الدول بالتفكيك وتعيد الكيانات القائمة إلى مجتمعات طبيعية بدائية لا روابط عليا تربط بين أمشاجها سوى الروابط الأهلية العصبوية: القبلية، والعشائرية، والعائلية والمناطقية...إلخ. والأسوأ من تفكيكها الكيانات، هندستها السياسية الرامية إلى إعادة تركيبها من جديد على أساس عصبوي (طائفي أو مذهبي أو عرقي أو قبلي...)!!!
من البين أن نظرة من هذا النوع إلى الحرية منتهيةٌ، حكما، إلى وضعها في مقابل الدولة، حيث تجعل من الأخيرة نهاية للأولى. والحق أن العكس هو الصحيح؛ إذ الدولة هي من يسن القوانين التي تقر الحريات وتكفلها بالحماية؛ والدولة من يحمي الحرية مما قد ينتهكها باسم الحرية؛ والدولة من يرسم للحرية الضوابط لئلا تتحول إلى فوضى أو إلى عدوان متبادل بين من يعتقدون أنهم أحرار في أن يفعلوا ما شاؤوا. لم تكن هناك منظومة حريات قبل الدولة، ثم ما لبثت الدولة- بعد أن تكونت- أن نالت من تلك الحريات وقيدتها باسم القانون؛ هذا الكلام لغـوٌ بامتياز. وعلى المرء، في هذه الحال، أن يكون على درجة محترمة من الغباء كي يصدق هذه الخرافة! الدولة، إذن، ليست نهاية للحرية، بل هي إطار بدايتها الفعلية.
عبدالإله بلقزيز - أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، حاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.