فكرة الشّـرّ والعدوان في فلسفة السّياسة
للدّفاع عن فكرة السّلْم المدنيّة في المجتمعات الحديثة والمعاصرة -وهي من أمّهات الأفكار السّياسيّة في الفلسفة السّياسيّة الحديثة- فلسفةٌ ضمنيّةٌ يقوم عليها (ذلك الدّفاع)؛ وهي تعود إلى الفكر اليونانيّ القديم، في القرنين الرّابع والثّالث قبل الميلاد، وإن كان الفكرُ الدّينيّ والفكر الفلسفيّ الحديث قد أفصحا، مجدّدًا، عن المضمون الفلسفيّ ذاك؛ كلٌّ بطريقته. وليس من تناقُضٍ بين أن تكون السِّلمُ المدنيّة فكرةً سياسيّة، وأن تكون الفلسفة السّياسيّة -التي قلنا إنّها تقوم في أساس الفكرة تلك- فلسفةً أخلاقيّة؛ ذلك أنّ السّياسة والأخلاق تلازما معًا في الفكر اليونانيّ القديم، كما في الفكر الدّينيّ الوسيط، ولم يُشْرَع في فكّ الارتباط بينهما إلاّ في فجر العصر الحديث (= القرن السّادس عشر) مع المؤرّخ ورجل السّياسة الإيطاليّ نيكولا مكياڤيلّلي.
تَنْهَل فكرةُ السِّلْم المدنيّة أصلَها الفلسفيّ من الفكرة التي أشاعها الفلاسفة الإغريق عن الطّبيعة العدوانيّة لدى الإنسان، بما هي تعبيرٌ عن منازعه الحيوانيّة الموروثة والمستمرّة فيه، وعن حاجة المجتمعات إلى استئصال أو، على الأقلّ، إلى كفّ تلك المنازع من طريق إخضاعها للعقل وللسلطان ضمانًا للسّلام الاجتماعيّ والاستقرار. مبْنى هذه النّظرة إلى عدوانيّة النّاس على تقسيمٍ للنّفس إلى أنواعٍ ثلاثة (حسب القسمة الأفلاطونيّة): نفسٌ شهوانيّة، نفسٌ غضبيّة، ونفس عاقلة. لا يَعْنينا مَن يقابل كلّ نفسٍ من هذه مِن طبقات المجتمع، بل يعْنينا التّنويه إلى أنّ النّوعيْن الأوّليْن منها (الشّهوانيّ، الغضبيّ) حيوانيَّـا المصدر؛ يشترك فيهما الحيوان والإنسان، وبهما ينتميان معًا إلى جنسٍ واحـدٍ (= حيـوانيّ)، فـيما يَنْـمَاز الإنسان عن الحيوان بالنّـفس النّاطـقة (= العاقلة)، التي بواسطتها -أيضًا- يمكنه أن يكبح جِماح شهوانيّته وغضبه؛ أي حيوانيّته. لذلك لم يُدْخِل أفلاطون طبقات المجتمع التي لا تتمتّع بالقـوّة النّاطقة في عداد مواطني الدّولة؛ لأنّ المنتمين إلى هذه الطّبقات لا يجوز لهم أن يديروا الشّؤون العامّة فيما هُم محكومون بالشّهوانيِّ والغضبيّ.
من النّافل القول إنّ فكرة الشّـرّ الذي يَطْبع الطّبيعة البشريّة فكرةٌ دينيّة عبّرت عنها التّوراة في «سفر التّكوين»، قبل الفلسفة الإغريقيّة، وأتت فكرةُ الخطيئة في المسيحيّة ثمّ قصّة آدم وخروجه وحوّاءَ من الجنّة، في القرآن الكريم، تؤكّد عليها مجدّدًا بعد فلسفة الإغريق. وهكذا، ولأنّ «النّفس لَأمَّارةٌ بالسّوء» -كما جاء في الآية 53 من «سورة يوسف»-، فإنّ أفعال العدوان التي تملك أن تأمُر بها لا تُحْصَى عددًا وبالتّالي، يتطلّب ثنيُها عن الشّرّ وتَخْليتُها منه، وتَحْلِيَةُ نفسِها بالخير، إصلاحًا لها ودُرْبةً على ذلك الإصلاح إلى الحدّ الذي يُصبح فيه التّهذيبُ والتّخلُّق والتّعقُّل قيماً حاكمةً. وليس هذا من المستحيلات أو من قبيل مجافاة الطّبائع والسّنن، لأنّه مثلما جُبِل الإنسان على الشّرّ، جُبِل على الخير في الوقت عينِه، ومثلما تتملّكه الغرائزُ الحيوانيّة الافتراسيّة الدّاعيةُ إيّاهُ إلى إتيان أفعال الشّـرّ، يتحلّى بملكة العقل التي بها يَميز بين الخطإ والصّواب، بين الخبيث والطيّب، بين الشّرّ والخير، والتي في وُسْعه أن يُحكِّمها ويُخضع لها سائر المَلَكات الطّبيعيّة الأخرى فيه. ولقد أدّت وظيفةَ هذا التّهذيب والأَنْسَنَة للإنسان، في كلّ تاريخه، ثلاثُة مصادر متفاوتةُ الأثر -ولكنّها متضافرة الأفعال- هي: الأديان، والدّول، والتّربيّة، وإذا كان للإنسان أن يَدين في إنسانيّته لأحدٍ، فهو يَدينُ لهذه مجتمعةً؛ لأنّها التي استنقذتْه من حيوانيّته بالتّكوين والتّثـقيف والتّهذيب والأَخْلَقَة الدائبة على المثال المتعالي...
وما اختلف مفكّرو الإسلام -فقهاء ومؤرّخين وفلاسفة- عن فلاسفة اليونان في الانتباه إلى ما يشُدّ الفعلَ الإنسانيّ إلى الشّـرّ من روابط طَبيعيّة تَحْمله النّاس على العدوان. ولقد عَزَوْها، جميعًا، إلى الفطرة؛ حيث الإنسان جُبِل على الفعل ذاك، ولكن -في الوقت عينِه- جُبِل على الخَيْر متى لقيَ التّربيّةَ الحسنة وامتـثل لأوامر الدّين ونواهيه. والمثير أنّهم جميعًا، منذ عبد الحميد الكاتب، وخاصّةً منذ الفارابيّ إلى ابن خلدون، مرورًا بابن سينا وأبي الحسن الماورديّ، أَفْردوا للسّياسة والسّلطة دورًا مركزيًّا في كبح جِماح العدوان المتبادَل بين النّاس، فشدّدوا على حاجة الاجتماع الإنسانيّ إلى وازِعٍ (= رادع) يَزَع النّاسَ عن بعضهم البعض، ويفرض عليهم السِّلمَ والتّعاوُن متوسّلين بذلك المشروعيّةَ السّياسيّة للسّلطة (وخاصّةً الفقهاء منهم). وما من شكٍّ، أيضًا، في أنّ تجارب الحروب الدّاخليّة والفتن التي مزّقتْ وحدةَ الجماعة الإسلاميّة، بل وحدة الخلافة والدّولة، كانت في أساس هذا الوعي الذي أَظْهَرَهُم على الحاجة إلى السّلطة بحسبانها رادعًا للعدوان المتبادَل وإطارًا للاستقرار الاجتماعيّ والسّياسيّ حتّى مع امتناعِ شروط استعادة الأمّة وحدتَها.
والمثير أنّ الفلسفة السّياسيّة الحديثة قامت -مع توماس هوبس في بدايات القرن السّابع عشر- على فرضيّة العدوان المتبادَل هذا بين النّاس، من أجل أن تؤسِّس عليها فكرةَ الدّولة أو المجتمع السّياسيّ والحاجة الماسّة إليها. افترض هوبس (وأخذ عنه الفلاسفة اللاّحقون - جون لوك، سپينوزا، جان جاك روسو...) حالةً سابقة لقيام الدّولة أطلق عليها اسم حالة الطّبيعة State of nature؛ أي الحالة التي لا تقوم فيها بين النّاس علاقات محكومة بقوانين ما خلا قوانين الطّبيعة. وفي هذه الحالة لا يكون من سلطةٍ داخل الجماعة البشريّة، ولا من قانون وبالتّالي، يكون فيها السلطان للنّوازع وللرّغائب في حيازة الأشياء كلِّها، تلك التي يقع توسُّل القوّة من أجل تحصيلها. لكنّ هذا يقود إلى ما سمّاهُ هوبس «حرب الجميع على الجميع»؛ الأمر الذي يُهدّد بالإفناء المتبادل وبالتّالي، بنقض قوانين الطّبيعة وفي قلبها قانون حفظ النّوع الإنسانيّ -أو قانون البقاء- وقانون السّلام الذي هو شرطٌ لحفظ الأوّل. لذلك، لا نُدحة للنّاس كي يضعوا حدّا لهذا العدوان المتبادَل إلاّ الخروج من حالة الطّبيعة وتأسيس الدّولة، كي تنهض بواجب الرّدع والأمن وحماية السِّلْم المدنيّة.
هكذا تُظْهِرنا فلسفة السّياسة على الدّوافع غير العاقلة التي تَكْمَن خلف السّلوك الإنسانيّ، والتي قد تتسرّب إلى مجالات الفاعليّات العاقلة نفسها. وإذا كانت السّياسة -بما هي فاعليّة عاقلة- كـفًّا لتلك الدّوافع، فإنّ هذا الكفّ لا يكون تامّاً دائمًا؛ لأنّ مبْنى السّياسة على المصالح والمصالح، بطبيعتها، أَمَّارةٌ بالصّراع والمواجهة... و، أحياناً، حتّى بإعمالِ أَوْسخ الأسلحة.