فضاءات ماكينزي في مواجهة الذكاء الاصطناعي التوليدي
إذا تابعنا الحراك الفكري والتقني بشأن روبوت المحادثة شات جي بي تي (ChatGPT) على المستوى العلمي، وفي وسائل التواصل الاجتماعي نجد الكثير من التحليلات والتكهنات، أحدثت هذه الثورة في تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي تحوّلًا جوهريًا متعدد الأبعاد في المجالات ذات الصلة بمعالجة اللغة الطبيعية، مما يعني إعادة صناعة القطاعات المعرفية المتعلقة بهذا التطور غير المسبوق؛ مثل التعليم، والكتابة الإبداعية، والترجمة، وخدمات المتعاملين، ويُصنف الذكاء الاصطناعي في العموم بأنه الموضوع الأكثر نقاشًا في دوائر التخطيط والاستشراف المستقبلي، ومع التطورات الهائلة للتقنيات الموجهة بالذكاء الاصطناعي لا بد من وقفة مراجعة وتحليل، فهل يحتاج المخططون إلى نهج جديد تمامًا لوضع الخطط ورسم الاستراتيجيات؟ وهل تصمد منهجيات التخطيط السائدة مثل أداة التخطيط بالسيناريوهات المستقبلية، أو الفضاءات الثلاثة لماكينزي أمام صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
تعالوا نقترب أكثر من الزخم الكبير الذي حظي به ظهور شات جي بي تي، فقد تباينت ردود الفعل منذ إطلاقه في 30 نوفمبر من عام 2022م، وما بين المؤيدين والمنتقدين لهذه التقنية كانت الحقيقة الماثلة هي أن الذكاء الاصطناعي قد أصبح سائدًا في حياة الإنسان، وبذلك فإن منحنى جديدًا قد لاح في الأفق، وأصبح يوجّه حاضر ومستقبل البشرية، ولكن في الواقع لم تكن لهذه التقنيات المتقدمة الكلمة الفصل في هذا التغيير الذي لا يقبل التراجع، فقد تغيّر عالمنا إلى الأبد في اللحظة التي نشر فيها أشيش فاسواني من شركة جوجل والمؤلفون المشاركون معه ورقتهم البحثية التاريخية بعنوان «الانتباه هو كل ما تحتاجه»، كان ذلك في عام 2017م عندما تناولت هذه الورقة العلمية ما أطلق عليه حينها «البنية الجديدة للتعلم الآلي»، والتي مهدت الطريق لتطوير المحولات التوليدية المُدَربة مسبقًا، وعليها قامت تقنية شات جي بي تي، وهذا يضعنا أمام واقع التطورات التكنولوجية المعاصرة، وتأثيرها الجوهري على المشهد المعرفي والمؤسسي والمجتمعي كأحد أهم موجهات المستقبل، وفي الجهة المقابلة نجد بأن درجة المواكبة من قبل المخططين وراسمي السياسات ليست متكافئة مع هذا التقدم السريع والهائل للتقنيات، وإذا وضعنا في الحسبان أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل بمعزل عن التقنيات الناشئة الأخرى، مثل الإحصاء الكمية، والبلوكتشين، والواقع المعزز والافتراضي، وتطورات الحوسبة السحابية، وتحليلات البيانات الضخمة، وخوارزميات التعلم الآلي المتقدمة، والحوسبة العصبية، فإن التفاعل بين هذه التقنيات يساهم بشكل كبير في تسريع الحاجة إلى تبنّي التحليلات التنبؤية والاستشرافية المتقدمة في التخطيط الاستراتيجي، لا بد من الإدراك بأنه مع تنوّع الإمكانيات الهائلة للذكاء الاصطناعي لم تعد المنهجيات التقليدية للتخطيط التقليدي فعالة، وتشير المعطيات الحالية إلى أن الأدوات السائدة مثل رسم السيناريوهات وفضاءات ماكينزي لن تصمد طويلًا أمام صعود التقنيات المتواصل، وزحفها الديناميكي على حياة البشر وعالم الأعمال بطرق لا يمكننا التنبؤ بها.
إذن دعونا نبدأ بالتخطيط بالسيناريوهات الذي يتربع على قمة المنهجيات الموجهة للتعامل مع حالات عدم اليقين في البيئة الخارجية، في سياق المرجعية التاريخية يعود تطوير فلسفة وآليات تخطيط السيناريوهات إلى جهود شركة شل منذ حوالي 50 عامًا للتخطيط المستقبلي الممنهج حينما كان الدافع المجهول والرئيسي آنذاك هو توقعات أسعار النفط، التي بدورها كانت واقعة تحت تأثير مجموعة كبيرة من العوامل الخارجية مثل الاستقرار الجيوسياسي، وازدياد الطلب على الوقود الأحفوري، وكانت المدرسة الفكرية لشركة شل من بين المنهجيات الرائدة التي استقطبت المؤسسات والمنظومات الإقليمية والدولية لاستنساخ التجربة التي نجحت في قطاع النفط والطاقة، ثم انتقلت هذه المنهجية للدوائر المؤسسية والتخصصات المعرفية الأخرى حتى صار رسم السيناريوهات من أبجديات التخطيط الاستراتيجي، والتحدي الأكبر الذي يعترض المخططين الآن هو صعوبة الخروج بسيناريوهات متسقة مع تعدد أسباب عدم اليقين، وذلك بخلاف منهجية شركة شل التي وضعت خياراتها الاستراتيجية بالاستناد إلى مختلف السيناريوهات المتمحورة حول متغير واحد وهو أسعار النفط، وعلى هذا الأساس تمكّن المخططون من رسم سيناريوهات متسقة داخليًا، وفي ذات الوقت قابلة للتصديق، وكذلك كانت السيناريوهات ذات مصداقية على ضوء تهيؤ فرص واقعية أمكن التنبؤ بها من خلال استقراء الاتجاهات الراهنة، ولكن هذا لا يمكن الوصول إليه في ظل تعدد الموجهات المحددة لرسم ملامح المستقبل مع زحف التقنيات المتقدمة.
إن الأمر المثير للاهتمام هو أن الفرص الواعدة التي يحملها الذكاء الاصطناعي والتقنيات المصاحبة له لا تتوقف عند اختراع برمجيات قادرة على التخطيط الاستراتيجي من أجل القيام بالتحليلات العميقة للبيانات والاتجاهات التي تفوق حدود الذكاء الفطري، ولكنها تعلمنا قيمة إعادة إنتاج مفاهيم وأطر التفكير الاستراتيجي بتجنُّب اتباع مسارات العمل التقليدية المجربة والموثوقة، والانفتاح على الابتكارات الجديدة وغير المألوفة، إذ لا تستطيع الاتجاهات والافتراضات النمطية للفكر الاستراتيجي المألوف استيعاب مدى التعقيد والتقلبات والفرص والمخاطر التي أصبحت جزءًا من واقعنا الجديد، ولكن الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التعلم الآلي يسمحان بذلك عبر تحليل الموجهات والمحددات، واستشراف المستقبل المنشود، والتخطيط بكفاءة ومرونة تسمحان بمواكبة التغييرات، فالتحليلات التنبؤية التي يتكفل بها الذكاء الاصطناعي كفيلة بإكساب الخطط الاستراتيجية درجة عالية من الرشاقة والقدرة على الكشف عن النقاط العمياء المحتملة، والتي غالبًا ما يغفل عنها الذكاء الفطري، وهذه النقطة المفصلية في حتمية توظيف تفوق الذكاء الاصطناعي في معالجة كميات هائلة من البيانات، وإيجاد أنماط وعلاقات دقيقة بين محركات الأداء، والطموح المنشود، والموارد المتاحة للتنفيذ، مما يمنح التخطيط بأدة رسم السيناريوهات المدعومة بالذكاء الاصطناعي ميزة تنافسية مهمة من حيث تقديم رؤى واقعية لمتخذي القرار بشأن درجة احتمالات تنفيذ الخطط الموضوعة، وهذا من شأنه أن يزيح من على كاهل المخططين وراسمي السياسات عبء تحمُّل تداعيات عدم تحقيق أهداف الخطط بسبب غياب الوضوح الاستراتيجي والديناميكي طويل الأمد.
فإذا انتقلنا لمنهجية فضاءات ماكينزي التي نجحت في الإجابة على الأسئلة الاستراتيجية المرتبطة بالعمليات التنظيمية والتخطيط الاستراتيجي، نجد بأنه بمجرد فهم السيناريوهات الرئيسية يتسنى للمخططين وضع المبادرات الاستراتيجية التي هي بمثابة خطوات استباقية لتوجيه إطار العمل ضمن ما أطلق عليه مصطلح فضاءات ماكينزي الثلاثة (McKinseys’ Three Horizons) ، حيث تمثل هذه الفضاءات المنهجية الأساسية لإدارة المبادرات الاستراتيجية وتحديد أولوياتها، وفي أبسط معانيها تمثّل هذه الفضاءات موجهات صناعة واتخاذ القرار بناءً على إطارها الزمني ودورها في تحقيق الأهداف والغايات الأساسية للخطة الاستراتيجية، إذ يركّز الفضاء الأول على المبادرات التنفيذية الأساسية التي تضمن التقدم الإيجابي في تنفيذ الخطة والاستدامة في مواصلة مسارات التنفيذ، في حين يتضمن الفضاء الثاني جميع المبادرات الرامية لاقتناص الفرص الناشئة التي قد تتطلب استثمارات كبيرة ولكنها في ذات الوقت تمثل فرصا واعدة بالنمو المستقبلي، وأما الفضاء الثالث فهو بمثابة المسرع لأفكار أو ابتكارات تحويلية طويلة المدى تمتلك القدرة على إعادة تشكيل مستقبل القطاع أو المؤسسة المالكة للخطة الاستراتيجية، وبمعنى آخر، تأخذ مبادرات الفضاء الثالث بعين الاعتبار أخذ القرارات الحاسمة وعالية المخاطر بشأن الاستثمارات في الموارد والقدرات التي من المرجح أن تكون الأساس لميزة تنافسية في المستقبل وإن تعددت مصادر عدم اليقين، ومن خلال رسم خرائط المبادرات عبر هذه الفضاءات، تمكّنت المؤسسات من تحقيق التوازن بين مختلف مستويات التوجهات الاستراتيجية للحفاظ على العمليات الحالية مع الاستثمار في النمو والابتكار في المستقبل، ولكن التخطيط بمنهجية فضاءات ماكينزي هي أيضًا بحاجة لميزات وممكنات الذكاء الاصطناعي.
وبالعودة إلى تجارب الشركات الابتكارية الرائدة نجد بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد ذلك اللغز الغامض الذي علينا الانتظار والتريث للتأكد من تأثيراته على حياتنا، فالشواهد ماثلة في النجاحات التي تحققت في نقل فلسفة وأدوات التخطيط الاستراتيجي التقليدي طويل الأجل من الركود المعرفي والتكرار الروتيني إلى مستوى الابتكار والتجديد، وذلك في وقت بلغت فيه وتيرة التغيير أوج تسارعها، فالبيانات الضخمة، والخوارزميات، وأجهزة الاستشعار وغيرها من الأدوات المذهلة التي تتيح الوصول إلى المعلومات ومعالجتها في الوقت الفعلي لعملية التخطيط والاستشراف قد حولت الخطط إلى ما يسمى «استراتيجيات الوقت الحقيقي»، أو الاستراتيجيات الديناميكية الناتجة عن الاندماج بين الاستشراف الاستراتيجي والذكاء الاصطناعي، الذي منح السيناريوهات والفضاءات القدرة على تقديم التوجيه المتوازن في مواجهة حالات عدم اليقين أو التعقيد، وذلك بالتركيز على إيجاد فرضيات متعددة حول المستقبل، بدلًا من مجرد التنبؤات الخطية، وبناء نموذج منطقي للتعامل مع حالات عدم اليقين بتحويلها إلى محفزات التطور المستدام، ولتحقيق مكاسب إنتاجية على المدى الطويل.