عـودة إلى إيديـولوجـيا الفـرد
آذنت حقبـةُ ما بعـد الحـرب العالميـة الثانيـة بازدهار خطابين سياسيـيـن في مسائل الحـقّ، أو الحقوق، دارا على كيـانـيْـن اجتماعـيـين رئيـسيْـن: الطبـقات الاجتماعـيّـة والشّـعـوب. لذلك الانتـقال في مركـز الخطاب «أسبابَ نـزول»، كما تقـول عـلوم القرآن: تعاظُـم نفـوذ الحركات النّـقابـيّـة العمّـاليّـة في الحياة العامّـة في أوروبا ومعها اتّسـاعُ نطاق التّأثـير السّياسيّ للحـركات الاشتراكيّـة والشّيوعيّـة (بعد الثّـورة البلشـڤـية تحديداً)، من جهـة، وانـطلاق مـدّ حركات التحرّر الوطـنيّ في بلـدان الجنوب وتصاعُـد نضالاتها السّياسيّـة والمسلّـحـة لانتـزاع الاستـقـلالات الوطنـيّـة لشعوبها من جهة أخرى. ولقد كان الطّـورُ الأعلى لذلك المـدّ بين نهايـة الحـرب العالميّـة الثّـانيـة ومنـتـصف السّـبعـيـنـيّـات مع نجـاح الثـورة الڤـيـتـنامية في دحـر الاحتـلال الأمريـكيّ. امتـدّ بريق هـذيـن الخطابيـن إلى نهايات عقـد السّـبعـيـنـيّـات من القرن الماضي حيث بـدأ في الخمـود في سياقٍ اضمـحلالٍ تدريـجيّ للنّضـالات التّـحرّريّـة الوطـنيّـة والاجتماعيـة الطـبـقـيّة، بمـوازاة عـودة الحقـبـة الليـبراليـة ثانيـةً إلى أوروبا والعالـم: فكـرةً وسياسات... وفي صورةٍ من التّـوحُّـش غير مسبوقة. لم يـنـدثـر مبْـنـى خطـابٍ حقوق الفـرد في هـذه السّـنـوات السّـتّـيـن، التي أومـأنا إلى خطابات الحـقّ فـيـها، ولا هـو أصيب بـوهـنٍ منـذ ميـلاد نظـام الدّولـة الحـديثـة التي ظـلّ فيـها الخطـابَ الرّئـيسَ المُـسْـتَـقَـاةُ مبادؤُهُ من الـفـكـر اللـيـبرالـي. كـلُّ الذي حصـل له، في ثـلـثـيْـن مـن القـرن الماضي، أنّـه زوحِـمَ على دوره، الذي احـتـكـره طـويلاً، ولم يعـد وحـده في الميـدان بـل وُجِـدَت إلى جـانـبـه خطابـات أخـرى تخاطـب حقـوق جـهـاتٍ اجتماعيّـة أخـرى أنجـبـها التّـطـوّر الرّأسـمـاليّ (= الطّـبـقـات الكادحـة) وتوسُّـع حركـات الاستعـمـار (الشـعـوب المسـتـعـمَـرَة). على أنّ خطـاب حقوق الفـرد هذا سيشـهـد على تعـديـلٍ في طـبيـعـته ومضمونـه، في هـذه الحقـبـة الجديدة منه التي بـدأت مطالـعَ عقـد الثّـمانيـنـيّـات، سيـنـتـقـل بـه من خطاب يدور على حـقوق فـردٍ هـو، بالتّـعـريـف، المواطـن (في الفـكـر السّـياسـيّ الحديث وفي نظـام الدّولـة الوطـنيّـة) إلى خطـابٍ يـدور على حقـوق فـردٍ عابـرٍ للأوطـان والدّول وأعـمُّ من المواطـن هـو الإنسـان. لـيس يـعْـنيـنا مـن خـطاب حقـوق الإنسـان مـدى ما يوجـد فيـه - أو لا يوجـد - من تـنـاسُـبٍ مع المـقـدّمـات الـفـكـريّـة التي عـليها انـبـنى خطـابُ حـقوق المـواطـن، في الـفـكـر السّياسيّ الحديـث، إنّـما يـعـنيـنا النـظـرُ إليه بـما هـو خطابٌ صُـنِـع صُـنْـعـاً ليُـسْـتَـخْـدَم في الصراع السـياسـي والإيـديـولـوجيّ بين الغـرب - الذي صَـنَـعـه وفَـرَضـه - والعالَـم المعارِض لـه (في المعسـكـر «الاشتــراكـي» سابـقـاً وبلـدان الجـنـوب) الذي يُـرَادُ مواجهـتُـه بـه. لا يَسـتخـدم الغـربـيّـون، في مخـاطـبـة بعـضـهـم بـعـضاً، مـفـهـوم حقـوق الإنسان لأنّـه ما مـن شيء يـبـرّر لـهـم التّـراشـق بـه. لـقـد وُضِـعَ برسـم الاستـخـدام ضـد أعـداء الغـرب مـن كـلّ المِـلـل والنِّـحَـل، فبـات دارجـاً اتّـهامُـه (= أي الغـرب) خصومَـه بانـتـهاكـهـم حـقـوقَ الإنسـان، والبـنـاءُ على ذلك بسـياسـاتٍ تـتـوسّـل الضّـغـط السّـياسـيّ والعـقـوبات الاقـتـصاديّـة والحصار...إلخ. وفيـما كان الشرق («الاشتراكي» سابقـاً) والجـنـوب يمـثّـلان المجـال التـداولـي لهـذا المفـهـوم وحـقـلَ اشتـغـالـه، ظـلّـت بـلـدان الغـرب تـتـحـدّث في داخلـهـا، وفي ما بـيـنها، عـن حقـوق المواطَـنـة مثـلما فعـلـت ذلك في عـهـود سابـقـة. وهـذه قـرينـةٌ على إيـديـولوجيّـةِ مفـهـوم حقـوقُ الإنسـان والأغـراضِ المـبـتـغـاة مـنـه. على أنّ العـودة إلى مـفـهـوم الفـرد في الخـطـاب النّـيـوليـبـراليّ مـا كـانت محـضَ عـودةٍ إلى مـفـهـومٍ بـلـورتْـهُ فـلسـفـةُ السّـياسـة والـقانـون واسـتـتـبّ لـه أمـرُ السّـيادة والمرجـعـية فـي فـكـر اللـيـبـرالـية، بـيـن منـتـصـف القـرن السّـابـع عشـر ومنـتـصـف القـرن التـاسـع عشـر، وإنّـمـا أتـى يمـثّـل ردّةً على المـفـهـوم الأصـل واستـدخـالاً قـيـصريّـاً لـحـقـوقٍ فـرديّـة جـديـدة لم يـقُـل بـها الـفـكـر السّـياسـيّ الحـديـث، ولا نتـيـجـة لـها - في المطـاف الأخيـر- سـوى نقـض مبـادئ ذلك الـفـكـر والتّـطـويـح بـبـنـيانـه. لـم تكـن عـودةً نيـولـيـبـرالـيـة إلى اللـيـبرالية؛ لأنّ هـذه لا تُـشـبـه تلك، وإنّـمـا أتـت تـعـيـد صـوْغ مفـاهـيـم تلك اللّـيـبـراليّـة بـما يتـنـاسب والانـتـقـال الجـديـد الذي حـصـل في النّـظـام الاقـتـصـاديّ اللّـيـبـراليّ نفـسـه، في ثـمـانـيـنـيّـات القـرن العشـريـن، وأنـجـب نظـام اللّـيـبـراليّـة المتـوحّـشـة على أنـقـاض ليـبـراليّـةٍ اجتـمـاعـيّـة فـتـحـت للـرّأسـماليّـة أفـقـاً جـديـداً أَخَـذَهـا، في نطـاق الهـنـدسـة الكـيـنـزيـة، إلى اختـبـار نـمـوذج دولـة الرّعـايـة الاجتـمـاعـيّـة. مفهوم الفـرد في الـفـكر السّياسـيّ الحديث، وخاصّـةً بعد الـدستـور الأمريكـي والثّـورة الفرنسيّـة، هو عيـنُـه المفهـوم الذي تَـوَلَّـد منـه معـنـى المواطـن؛ إذِ الـفـردُ - الذي هـو مبـدأ الـدّولـة في القانون - هـو ذاك الذي ينـتـمـي إلى الـدّولـة ويـسـلِّـم بحاكـميّـة قوانـيـنـها وتعـتـرف لـه الـدولـة بحقـوقـه مقابـلاً للانـتـمـاء إليها ولأداء الواجـبـات تجـاهـهـا: إنّـه عيـنُـه المواطـن. وهـذا يعـنـي أنّ فـرديَّـتـه تـتـحـقّـق داخـل الـدولـة والمجـتـمـع، وفي نطـاق ما تسمـح بـه القـوانـيـن مـن حريّـات. في المقابـل، يكـتـسـب مفـهـوم الـفـرد معـنًـى مخـتـلـفـاً في اللّيـبـراليّـة الجـديـدة: إنّـه الوحـدة الاجتـماعيّـة الصّـغـرى التي تـتـمـتّـع بالحـقّ في عـدم الخـضـوع لأيّ إرادةٍ أخـرى غيـر إرادتـهـا الخاصّـة. ليـس مـن سلـطـانٍ على هـذا الـفـرد لا مـن الـدّولـة ولا من المجتـمـع؛ فهـو سيِّـد نفـسـه وقـانـونُ نفسـه. وعليـه، فإنّ فـرديّـتـه تـتـحـقّـق خـارج الـدّولـة والمجـتـمـع وضـدّاً منهـمـا! هـكـذا سـتُـؤْذِن اللّـيـبراليّـة الجـديـدة بانـتـقالٍ دراماتـيـكـيّ حاسـم في الـفـكـر السّـياسـيّ ومـفاهـيـمـه؛ ومعها لـن نعـود أمام فـلـسـفـةٍ حقـيقـيّـة للفـرد - نظيـر ما كـانـت عليـه الـفلسـفـة الليـبراليّـة - بـل أمام نـزعـةٍ فـردانـيـة لا عِـقالَ يَـعْـقِـل انـدفاعـةَ الـفـرديّـة الهَـوجـاءَ فيـها! وهـذا، طبـعـاً، هـو ما سـوَّغ لـخـطابـات النّـهايـات: «نهايـة الـدّولـة»، «نـهايـة السّـيادة»، «نـهايـة الإيـديـولـوجيـا»، «نـهايـة المـجـتـمـع» وأَطْـلَقَـها في الكـلام على الحاضـر والمستـقـبـل ...! |