عن الشوكولاتة وأشياء أخرى

12 سبتمبر 2023
12 سبتمبر 2023

رواية كالماء للشوكولاتة أو الغليان وفق عنوانها الأصلي للروائية المكسيكية: لورا سكيبيل هي عمل أدبي أخاذ فيما يخص تلاقي السحري مع الواقعي وفي قدرة الكاتبة الفنية على اختيار ثيمة لافتة في ثقافة بلدها ومزجها مع مكونات السرد الأخرى لاعبة ببراعة هنا أيضا على دمج عالمين حسي واقعي وآخر أسطوري وغرائبي وهي ثيمة الطعام.

عام 2010 أدرجت منظمة اليونسكو المطبخ المكسيكي ضمن التراث العالمي غير المحسوس. تاريخ الطعام في المكسيك ضارب في القدم وتوالي الحضارات والثقافات المتباعدة في أصولها والمختلفة جدا في تكوينها على المكسيك أغنى مآدب الطعام ونكهات الأكل وتقنيات الطبخ. فلا عجب أن ارتبط الطعام لديهم بكثير من الطقوس والعادات فمن حضارة المايا والأزتك لتأثير الإسبان (وضمنا المطبخ الأندلسي) والثقافة الأوروبية وليس انتهاء بتأثير القارة الأفريقية.

هذا الخليط العجيب من الثقافات بتفضيلاتها الغذائية وتوابلها ومكونات الطعام فيها وتقنيات الطبخ التي حوت التأثير القديم لحضارات السكان الأصليين والمهاجرين ورفه النمط الأوروبي (المتغطرس ربما) ومرح وبهجة (الكاريبي) ممتزجة بمناخ وعادات وبيئة المكسيك جعل من هذا الطعام روايات بحد ذاتها.

انتقت الروائية بعناية ثيمة الطبخ لتنسج بها وحولها صراع التقاليد والرغبات والقيم وتلم حولها شخوص حكاياتها بعلاقاتهم الشائكة والشائنة في كثير من الأحيان ووجع بعض البشر في رحلتهم الإنسانية وهم يعبرون هذه الدنيا بمشقة فرضتها عليهم ظروفهم المحيطة وتراهم يحاولون جاهدين أن يجدوا سبيلا أكثر راحة ولكن ليس دون تكلفة باهظة ودون قلق وأذية وأخطاء.

كانت وصفات الطبخ الدقيقة مقدمة لكل باب من أبواب الرواية ومتداخلة مع كل حدث محوري فيها لتشعرك أن الطعام جزء من ثقافة المكان وصيرورة الحياة فيه، فأنت كما تريد أن تستشعر مكان الرواية والبنية الحضارية لمحيط الأحداث ومناخات السرد، أين تتكون الحكاية ويتصاعد إيقاعها، من هم هؤلاء الشخوص، تجد نفسك لا شعوريا تريد أن تعرف ماذا يأكلون! العجيب أنه في لحظة ما تود حقا أن تجرب هذا الطبق أو لو أنه يمكن أن يخرج من الصفحات إلى مائدتك.

نجحت لورا في روايتها من أن تجعل الطعام يتفاعل مع أحداث الرواية. فهو ليس ديكورا هامشيا تضعه ليزين الحكي أو لتتأكد فقط من واقعية ما يحدث بتضليلك فربما وفق ما توقع خيالها الروائي أنه بإضافتها مكونا تعرفه في حياتك وهو الطعام. تقنعك في لحظة التخيل أنك أمام حدث واقعي لا محالة ولا بد من أن هذه الحكاية قد حدثت في زمان ما، فأنت تأكل مع هؤلاء البشر ما الذي يمكن أن يكون محسوسا أكثر من ذلك!. هي تذهب لما هو أبعد بأن جعلت الطعام جزءا من الأحداث فبطلة الرواية ولدت على مائدة المطبخ لأسباب تراجيدية ولم تتغذ على حليب أمها بل تغذت على يد طباخة المنزل من المطبخ وانغمست في الطعوم والروائح مبكرا، وكان هذا الانفصال العاطفي عن أمها مبكرا يقابله انتماء كامل لعالم الطبخ الذي احترفته. وكانت ذكية في إقناع القارئ بصدقية الرواية للحد الذي بدا فيه التحول اللامنطقي للأحداث مفهوما ولم يكسر ذلك الخيال الجامح واقعيتها تماما. فالأسطورة كما هو الطعام جزء من ثقافة المكسيك. والسحرية التي تؤول إليها الأحداث ليست غريبة عن أجواء الحكي ومكانه وبالتالي لا يمكن أن تفهم منطقية الحدث في بلاد الأساطير دون غرائبية ما، فالدموع يمكن أن تفيض وتتبخر وهذا في أول أسطر الرواية وأنت تشهد البداية بولادة بطلة النص ولا تقف مستغربا ويتبعك هذا الإحساس المتقبل لخيال ينسج نسجا في الواقعية فيتصل بها اتصالا محكما يفرض عليك صدقيته. مكون ضروري لرواية كهذا مثلما يمكن أن تضيف أحد المنكهات النادرة بقدر ما.

بل إن وصفة الطعام أشبه بالحياة نفسها. حتى لا تفسد الطبخة وتفسد كل ما حولها وجب أن تتبع الوصفة بدقة. تصف الروائية مكونات الطبخة قبل أن تشرع في سرد الأحداث وضمنيا يجب أن تتبع القوانين في عالم الطبخ كأن تضبط درجة حرارة الموقد ومدة الطبخ بما يضمن النتيجة المثالية متى ما حدث تغيير حاد: غير مألوف أو غير مرغوب لا يمكن أن يخرب الطعم والنكهة فقط بل إن النتيجة ستكون كارثية. قد تحترق الوجبة بالكامل أو تؤذي كل من يتصل بها كما حدث لأبطال الرواية الذين خالفوا العادات والقيم وأخلاقيات المجتمع في كل مرة يرتفع إيقاع المخالفة تعلو وتيرة الارتداد وشدته حتى وصلت للنهاية الكارثية والاحتراق الأخير. وكلما كانت بين الأحداث فرصة للاتزان والتعايش هدأت موازين القوى تماما كما تتزن مقادير وصفة الطبخ وتمر لحظة الأكل/ العيش بسلام.

رواية الغليان ليست الوحيدة بالطبع في استلهام ثيمة الطعام كمادة للحكي. وربما كان للأدب اللاتيني حظ الوفرة في الافتتان بالمطبخ في نصوصه الروائية. وإذا فصلنا موضوع القص والأحداث جانبا فالروايات غالبا تمنحك معرفة خارج مادة الحكاية نفسها، أنت تعرف شيئا قليلا عن الحضارة والتاريخ والتقاليد، وهنا أن تعرف شيئا عن الطبخ: عن طيور السمان بصلصة الورد مثلا. وعن تسمين الديوك الرومية بعدد محدد من حبات الجوز.

يعد الطهي ثيمة ثقافية تم تناولها بكثافة في الأدب والفن. ولعل العرب من أوائل من كتبوا فيه إذ يرجع تاريخ أول كتاب للطبخ العربي للقرن العاشر لصاحبه ابن سيار الوراق وهو يعد توثيقا لفن الطبخ وآداب الطعام في تلك الفترة. وهناك أيضا كتاب الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب ألفه ابن العديم الذي عاش في دمشق. وغيرها من الكتب التي توالت في مختلف الحقب الحضارية الإسلامية. قيمة مثل هذه الكتب أنها تقدم لنا صورة عن جزئية في ثقافة الشعوب آنذاك لم تكن لتصل إلينا لولاها. الطهي وأطباق الموائد وعاداتها ليست فقط أطايب ومادة للإشباع بل هي أسلوب حياة. فهي تسرد عادات الأكل وتوضح لنا المأكولات وتقنياتها وما هي أهم المواد التي يتم استهلاكها وتشير بشكل ما إلى العلاقات التجارية والصلات الثقافية ببلدان أخرى ومكامن التأثير والتأثر فمثلا كتاب الوصلة للحبيب (يستحق العنوان بذاته تحليلا) لم يقدم أية مأكولات تحتوي على الطماطم لأنها لم تكن معروفة في سورية في ذلك الوقت (وأظن أنها لم تكن معروفة في العالم المستكشف وقتها إذ إنها وصلت بداية إلى أوروبا عن طريق المستكشفين إلى أمريكا اللاتينية ووجدت طريقها للأطباق الراقية بعد فترة طويلة جدا من التردد والتجريب). ومن الجميل أن نعرف أن بعض الحلويات التي نتناولها اليوم تناولها على موائدهم أسلافنا في العصر العباسي كلقمة القاضي، واحتوى الكتاب على أبواب عجيبة من مثل ذكره للطيب والبخور والمسك والعنبر وباب في (تصعيد المياه وتطييب رائحة الفم) واصفا الطرق الجميلة لتعطير الماء الذي يستخدم في غسل اليدين أو تعطير الفم آخذا ومقتبسا من مؤلفين سابقين مبتدأ حديثه ذاك بالتعطير بالورد بأنواعه رطبا طريا ومجففا وألوانه أحمر وأبيض وأزرق.

( أي متعة ! ). الطهي كذلك بالإضافة للنشر المتخصص فيه مادة للتصوير التلفزيوني والسينمائي روائيا ووثائقيا. ولوحظ ارتفاع عدد البرامج التلفزيونية والقنوات المتخصصة في الطبخ وذلك لجماهيريتها العالية وما تحققه من نسب إعلانات مرتفعة لا نختلف كثيرا في ذلك في عالمنا العربي فهي في تزايد، ولعل أولها قناة فتافيت التي بدأت بثها عام 2006 واكتسبت جماهيرية عالية. من نماذج برامج المسابقات الناجحة والمعروفة لدينا في العالم العربي والتي أصبحت لها نسخ في بلدان عدة برنامج الطبخ المعروف: ماستر شيف والذي يعتبره البعض حالة من حالات التأثير والهيمنة الثقافية كحال برامج الواقع التي يكون القالب فيها غربيا والمحتوى محليا، بحيث إن لم تؤد للتغريب الكلي فهي على الأقل تنتج هوية مدمجة أو مركبة. وبرامج جوردن رمزي التي تنوعت بين برامج الواقع تلك المغرقة في الدراما والتشويق مثل hell’s kitchen وبين تلك البرامج الوثائقية التي تقترب من ثقافات الشعوب الأخرى وتربط الطبخ بعادات ومناخ البلدان التي يزورها مثل أسرار الطعام. يذكر في نفس السياق برنامج cooked لمايك بولان ومن الأفلام الوثائقية فيلم spinning plate وفيلم Jiro Dreams of Sushi الذي يتتبع رحلة الشيف الياباني جير وولعه بإتقان فن السوشي حد الكمال، وهنالك أفلام وثائقية اتخذت خطا تحقيقيا لتبحث في صناعة الأطعمة حاليا والحروب والتنافس بينها وحقيقة قيمتها الغذائية لعل من أشهرها فيلم supersize me عام 2004 الذي قام فيه مخرج الفيلم بتطبيق التجربة على نفسه، إذ عمد إلى تناول وجبات مكدونالدز لمدة شهر كامل حتى يبين نتائج مثل هذه العادات الغذائية! الأمر الذي فتح نقاشا تعدى مادة الفيلم والنتيجة التي خلص إليها للجدل حول الآلية التي صنع بها. إذن لا تقدم هذه البرامج توثيقا ومعرفة ولحظات شهية فقط، فالبحوث العلمية تشير إلى أن برامج الطهي والشبكات والقنوات التلفزيونية المتخصصة فيه تؤسس لثقافة ومتعة طعام جديدة وتسهم في خلق أنماط استهلاكية وأساليب تسويق بل ومنتجات غذائية جديدة وأنها في كثير من الأحيان تكون شكلا من أشكال القوة الناعمة.وثائقيات وبرامج الطعام عموما صناعة يلتقي فيها الاقتصاد بالمتعة والمعرفة والهويات الثقافية والسياسة.