عن الدوافع الواعية وغير الواعية لتلقي اللقاح
((على العقد الاجتماعي تحديد معنى إيقاع الضرر بالآخر الذي يجب إذا ما توفرت شروطه أن يلتزم الفرد بخيارات ما كانت لتكون خياراته الأولى))
مع وصول حالات العدوى بفيروس كورونا إلى معدلات غير مسبوقة خلال الموجة الرابعة في ألمانيا، وتداول سؤال إلزامية اللقاح في الفضاء العام، تتصاعد كذلك وتيرة وحدة مظاهرات المشككين بكورونا في الشوارع. وأنا أجلس على مكتبي الصغير أفكر بما يعنيه كل هذا، وإن كان هناك مخرج قريب لهذه الأزمة.
غالبا حين أُجر إلى نقاشات حول الموضوع، أجد نفسي أقفز مباشرة للدفاع عن العلم وعن الطريقة العلمية التي يبدو أنها الأكثر أهلا للثقة من الطرق المتوفرة لحيازة المعرفة، وصناعة القرار. إلا أن هذا الموضوع - أولا - له علاقة أقل مما اعتقدت بالعلم، وأكثر مما اعتقدت بموضوعات الواجب المدني، والاستجابة السياسية وإدارة الأزمات. ثانيا، حين أُفكر بدوافعي لأخذ اللقاح، أتذكر أنه في الأساس نتاج شيئين: أ) فِعل ما يلزم من أجل العودة بالأمور إلى الوضع الطبيعي، والاستفادة من الامتيازات التي يمنحها اللقاح مثل القدرة على السفر مجددًا. ليس بالإمكان صبغ دافعي بأي لون من ألوان النُبل وتحمل المسؤولية: لم أُشغل في الواقع بحفظ أرواح الآخرين. لا يمكن إيعازه كذلك لأي دافع أناني مثل الحفاظ على سلامتي الشخصية. كل هذه الجوانب كانت آثارًا جانبية محمودة لفعل أردت به في الأساس راحة البال، وإعادة الحياة للشكل الطبيعي السهل الذي استسيغه. ب) الفقاعة التي أعيش فيها - أي شبكة الأصدقاء والمعارف من حولي- جعلت الأمر يبدو بديهيا، فلم يكن محل تساؤل بالمرة. لم نسأل هل علينا أخذ اللقاح أو لا؟ بل متى يتوفر؟
لتبسيط المسألة، سأقول: إن الآراء تأخذ مكانها بين قطبين: قطب المصدقين وقطب المُنكرين. بينهما طيف من المشككين، المرتابين، غير المطمئنين، والمُسلِمين بما يُفرض.
يعترض البعض اعتراضا علميا على المسألة فيقولون مثلا ما الذي يجعلنا نُصدق أن تبعات الإصابة بالفيروس هي بالحدة التي تُقدم لنا، أو أن الجائحة لها وجود في الواقع. قد يعترضون اعتراضات أقل جذرية مثلا كيف نطمئن إلى سلامة لقاح لم يمضِ على تطويره سوى أشهر. إذ يتم حاليا - حسب علمي - توفير لقاح كورونا للاستخدام وفقا لإذن الاستخدام الطارئ أو تصريح الاستخدام في حالات الطوارئ من قِبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. هذا النوع من الأذونات لا يعد موافقة رسمية كاملة، ولكن يسمح بتداول وتوفير وتعاطي الدواء كاستجابة لحالة الطوارئ.
يعترض البعض على الاقتصار على العلم في اتخاذ القرارات بينما هناك طرق أخرى للمعرفة. حسب نظرية المعرفة - التي لا أعرف عنها إلا قدرا محدودا متعلقا غالبا بالمدارس التي أميل لها شخصيا - تتراوح مصادر المعرفة بين: اللغة، الحواس، العواطف، المنطق، الخيال، الإيمان، الحدس، والذاكرة.
يرى المؤمنون بالمنهج التجريبي أن الطريقة الوحيدة للمعرفة هي تلك التي نكتسبها بالخبرة من خلال حواسنا في الغالب. أنت تلمس قِدرا حارًا فتحترق أصابعك. تتذكر هذه الحادثة حين تكون على وشك لمس قدرا حار مجددا. تُمنطق المسألة وتخرج بخلاصة تربط السبب بالنتيجة: الحرارة تتسبب في الحروق، أو الحرارة الصادرة عن الموقد وصلت إلى يدي لأن المعادن تنقل الحرارة. هذه معرفة - إذا - اكتسبناها عبر التجربة. على عكس مصادر المعرفة الأخرى، ما تمنحنا إياه التجربة قابل للتكرار، إذ يُمكن لأي شخص أن يُجرب ما إن كان ثمة مواد توصل الحرارة ومواد تعزلها، يمكنه أن يرى ويلمس ما إذا كان المعدن ينقل الحرارة. هذه القابلية للإعادة والتكرار، جعلت هذا المنهج الوسيلة الأهم للمعارف العامة. ففيما يمكن أن تصل إلى معارفك الشخصية عبر التجربة الذاتية، عبر حدسك، أو شعورك، أو حتى تأملاتك، لا يمكنك أن تُجادل بشأنها شخصا آخر. وعليه فإنني إذا ما أردت أن أبني قرارات تعني مجموعة من الأشخاص على أساس ما، فمن المعقول أن أبنيها على أساس يمكن للجميع أن يُدركوه. ليس لأن المعرفة التي تتأتى من التجربة أرفع شأنا، ولكن لأنها أداة ديمقراطية بمعنى ما.
المعترضون على إدارة الدول للأزمة، لا يعترضون بالضرورة على ما يقترحه العلم عن طبيعة الفيروسات، وآليات العدوى، والطرق الممكنة لمكافحتها من لقاحات، وأساليب وقاية. بل يعترضون على ترتيب الأولويات، أو يرون أن الإجراءات المتبعة لحل الأزمة تُهدد قيمًا أهم للوجود البشري مثل الحرية الفردية، والمساواة في الحقوق. تنطلق سرديتهم - التي تستحق التأمل - من أن الحرية الفردية لا يجب أن تُمس. إلزامية اللقاح، أو ارتداء الكمامات تمس بالحريات. ربط تلقي اللقاح بامتيازات (السفر، دخول أماكن الترفيه والتسوق) يعني التمييز ضد الفئة التي تختار عدم تلقيه، إنها تعني أن هذه الفئة لم تعد تملك حق السفر أو التسوق أو الذهاب للمطاعم، أو في أسوأ الحالات عليها التحايل ضد الإجراءات لنيل أيًا من هذه الحقوق.
أرى شخصيا، أن وسائل الإعلام الرئيسية - الألمانية والعالمية التي أتعرض لها شخصيا - تُشيطن رافضي اللقاح، ومُنكري الجائحة. لعل ذلك يحدث دون تخطيط، لكن ربما يكون أمر مدروس يهدف للتمهيد لإلزامية التطعيم، أو لتشجيع الناس للدفع ببعضهم البعض نحو أخذ التطعيمات الضرورية - على الأقل من وجهة نظر الحكومات - للقضاء على الجائحة.
الحضارة ونمو المجتمع الإنساني وتعقيد العلاقة بين أفراده تعنى أن ثمة عقد اجتماعي ضروري لابد أن يأخذ مكانه للتعامل مع التوتر الأزلي بين الحرية الشخصية وحدود الآخرين، على هذا العقد أن يُحدد معنى إيقاع الضرر بالآخر الذي يجب إذا ما توفرت شروطه أن يلتزم الفرد محل السؤال بخيارات ما كانت لتكون خياراته الأولى. يُجادل البعض أن الواجب المدني يُحتم على جميع الأفراد الالتزام بتعليمات الوقاية لأن الضرر الذي قد تلحقه بالآخرين يتجاوز الضرر الذي قد تلحقه بنفسك. أنت مثلا إذا ما أردت تجربة حركة خطيرة على لوح التزلج، فأنت لا تهدد سوى سلامتك الشخصية. أما حين تنقل العدوى، فأنت تُهدد حياة شخص في الستينات من عمره.
أحد أسباب تعقيد مسألة الجائحة هو أن تبعات أفعال الفرد غير واضحة. يمكن للمرء أن يتخذ موقفه الأخلاقي ببساطة من موضوع القتل أو السرقة على نفس الأساس الأخلاقي «الإضرار بالآخرين»، لكن يصعب مع كورونا تحديد مدى الضرر الذي قد تعرض الآخرين له إذا ما كان خيارك هو عدم الالتزام بتعليمات الوقاية. يصعب بالمثل تحديد الضرر النفسي والجسدي الذي قد تُوقعه بنفسك إذا ما التزمت بالتوصيات. سبب آخر لتعقيدها يتعلق بكون القوانين التي تحكم الجائحة هي قوانين طوارئ، هي استثناء لأن الوضع لا يحتمل عدم التعامل الفوري مع المسألة.
هناك موضوع شيق تعرضنا له سريعا هنا لعلني أُكرس له مساحة خاصة في قادم الأسابيع، ألا وهو دور الأفكار التأملية والعواطف في الوصول إلى المعرفة وفي صناعة القرار أيضا.
• كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم