عن التساهل مع الشر

14 أغسطس 2024
14 أغسطس 2024

سؤال الخير والشر قديم قِدم الفلسفة نفسها. لكن ورغم الاعتراف بأن ما تفعله إسرائيل هو شر مطلق، ثمة ومضة من الإعجاب لدى القادة، وبعض الشعوب تجاه إسرائيل، حتى من الدول التي تُعدها العدو الأول. تلك الأمة العصامية التي لا تُمس، ذات الحصانة، التي لا تتوانى عن استخدام القوة المفرطة، والعمل السياسي الضاغط.

وإسرائيل ليست موضوع الإعجاب الوحيد في هذا السياق. يقول البعض إنهم مُعجبون بهتلر، منهم من يُعلق صورة العرّاب (1972) The Godfather على جدرانه. ليس إعجابا بالفيلم من حيث قدرته على تصوير عالم الجريمة المنظمة، نفوذ المافيا الإيطالية في أمريكا، أو غيرها مما يُمكن أن يُعجبك في الدراما والشخصيات. بل إعجابا بما يمثله العرّاب. بتلك اليد التي تضرب دون رحمة، دون خشية، دون ردع، التي تُقرر جزاء العمل، دون أن تؤمن بضرورة تناسبه مع جنس العمل.

والعرّاب يشترك مع هتلر مع إسرائيل في أمور جوهرية: القدرة على وضع هدف، السعي بإصرار نحوه، تحقيقه، أيا كان الثمن. على الصعيد المهني، تضع الناس أهدافها، وآمالها أيضا. يعلم كل من كان له مكتب يوما أن اللعبة الاجتماعية، والماهرات الدبلوماسية، ضرورية للترقي، والحصول على أفضل الفرص. ثمة طبعا الصنف الذي يعمل بإخلاص، والذي تتوفر له مهارات تمنحه القدرة على الصعود. لكن ثمة نوع آخر: من يحبك الخطط بكل ما في الحبك من ارتباطات سلبية، من يتلاعب، ذو المبادئ المائعة. نحب أن نُصدق أن التخطيط الجيد، العمل الدؤوب، والرغبة القوية كافية لمنحنا ما نريد. لعل هذا وراء التغاضي عن أساليب البعض في الوصول لما يُريدون، وأن خسارتهم لأنفسهم عقاب كاف. وهو موقف لابد أن نُراجعه.

المعجبون بهذه النماذج، لا ينسون أن يقولوا: صحيح أنني لا أتفق مع فعله هنا وهناك. أو يقولون إنه إعجاب بما حققه، لا بالكيفية التي حققه بها. لكن هل فصل من هذا القبيل -أو تجاهله باعتباره شيئا هامشيا- مُمكن حتى؟ لم يُمكن لإسرائيل، لهتلر، للعراب، ولكل نماذج الشر أن تُحقق ما حققته، أن تصل لأهدافها التي وضعتها، دون الكيفية التي وصلت بها. فحصانة العرّاب قادمة من اقتصاصه غير العادل ممن يتحداه، أو يؤذي المقربين منه. توسع إسرائيل يعود لأفعال الإبادة، التطهير، والتهجير، وإن هذه الأفعال ليست عرضًا جانبيًا، بل عقيدة أساسية تُحرّكهم. وإلا لماذا نفشل في إيجاد نموذج «عصامي» آخر نتفق معه أخلاقيا. لأن طموح من هذا النوع، يأتي بالضرورة مع وسائل محدودة لبلوغه. وعلى هذا فالتعامل مع الفضائح التي تأتينا من السجون الإسرائيلية باعتبارها مجرد حوادث، بعيد كل البعد عن حقيقة كونها سياسات مقصودة.

يُخيل إلي أن نموذج العصامية: البدء من الكراج، والوصول إلى السيليكون ڤالي، مرغوب لحد يجعل الوسيلة مُبررة في سبيل الغايات.

تُخبرنا حلقة الأسبوع الماضي من برنامج اليوتيوب «في الحضارة» أن نيكولو مكيافيلي Niccolo Machiavelli المعروف بكتابه سيء السمعة «الأمير» قضى حياته مُدافعا عن الديمقراطية، وحكم الشعب، وأن هذا الكتاب -واحد من أكثر الكتب التي أُعيدت طباعتها في التاريخ- قادم من لحظة يأس وإحباط، بعد استبعاده -لاشتباهه في الاشتراك بالمؤامرة التي أسقطت عائلة ميديشي- بعد أن عاد المديشيون إلى السلطة، وكان يرجو منه أن يكسب ودهم، ليستعيد منصبه كأمين للجمهورية.

صارت القواعد السياسية التي وضعها مكيافيلي تُلهم الساسة، كما تُلهم نوعًا محددًا من الطموحين، المستعدين لبذل كل ما يُمكن بذله من أجل مزيد من السلطة أو المال.

ثمة تسامح غريب مع السلوك غير الأخلاقي. وإكبار لكل «نجاح» أيا تكن طريقة الوصول. وهو أمر لابد من إعادة التفكير فيه.