عمر أميرلاي في بيت رفيق الحريري

17 يناير 2022
17 يناير 2022

منذ العثور على سؤال علاقة المثقف بالسلطة في حقل الفلسفة الحديثة والإجابات تتوالى وتتضارب، تتنافر وتتجاذب تبعاً لما يطرأ من أنماط السلطة وأصناف المثقفين. وما تعقيد تلك الإجابات إلا نتيجة طبيعية لتعقيد السؤال نفسه حول طبيعة هذه العلاقة الخاصة وهي تشهد كل يوم من أيام هذا العصر تحورا باطنياً وظاهرياً في أشكال وأساليب «السلطة»، بتحفيز موارب من تقدم الآلة الصناعية واكتساح الفكر الرأسمالي لمختلف معطيات الحياة اليومية حتى اكتشاف سلطة اللغة (أو السلطة داخل اللغة) على يدي الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي يعتبره جيل دولوز أول من ابتكر المفهوم الحديث للسلطة. لقد ألغى فوكو الاعتقاد باحتكار السلطة في جهاز الدولة، كما يرى أن السلطة قد تأتي من أسفل الهرم، تماماً مثلما كانت وما زالت تأتي من أعلاه «فلا تعارض بين السائدين والمَسودين في جذور علاقات القوة» كما يقول، إذ أننا نعيش في خضم تنافس مسعور على السلطة لا ينتهي، ومنه ومن خلاله تنشأ حركة التاريخ. ولكن تبقى تلك الإجابات مجرد نتائج مخبرية يضعها الفلاسفة على الطاولة قبل أن يأتي من يرتكب الشجاعة الضرورية لاقتحام تلك المسافة الغامضة بين المثقف ورجل السلطة، وهذا تماماً ما فعله عراب السينما التسجيلية في سوريا المخرج الراحل عمر أميرلاي في فيلمه «الرجل ذو النعل الذهبي» الذي تم إنتاجه سنة 2000 في فرنسا.

ففي مناخ لبناني مشحون على كل الأصعدة، أفرزته الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، وجد عمر أميرلاي نفسه في مغامرة خطيرة انساق إليها بكامل إرادته وفضوله السينمائي إلى مغارة رجل المال والسلطة، رفيق الحريري، الذي لم يختلف اللبنانيون من قبل كما اختلفوا عليه، حتى بعد اغتياله في فبراير من عام 2005. وتلك بلا شك كانت شجاعة نادرة واستثنائية في سياق الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي، تحسب لأميرلاي كما تحسب للحريري الذي «تردد كثيراً قبل أن يوافق على المشاركة في الفيلم، والسبب على الأرجح سمعة أفلامي المتهمة بقسوة نقدها التي سبقتني إليه، وهو أمر لا يطمئن حتماً أي رجل عربي» كما يقول المخرج في فاتحة الفيلم.

منذ نشوء الدولة القُطرية في مرحلة ما بعد الكولونيالية، وجد المثقف العربي نفسه في علاقة مرسومة بصرامة مع النظام العربي، الأمر الذي ساق شريحة واسعة من المثقفين العرب إلى اليأس واعتزال الحديث في الشأن العام المؤدي إلى صدام حتمي مع السلطة التقليدية المتمثلة في جهاز الدولة. بينما حدا الوضع بالبعض الآخر إلى تملق السلطة والانضواء داخل عباءتها خوفاً وطمعاً، سائرين في جوقة منشدين «تسوق الناس جميعاً وتصيح بهم بالولاء للدولة» كما عبر الشاعر الإنجليزي ويلفريد أوين. أما مزاح المثقف مع السلطة فسرعان ما يتحول إلى نكتة ثقيلة، أو سرعان ما ينتهي لصالح السلطة، الطرف الأقوى في هذه المماحكة، ‏بعد أن «تنازل مثقفو العصر عن سلطتهم المعنوية أو الأدبية في مقابل «تنظيم المشاعر الجماعية الجارفة»، وهي عبارة تسبق عصرها وتشي بما صرنا إليه، مثل الطائفية، والمشاعر الجماهيرية، والعداوات المستندة إلى اختلاف القوميات» كما يسوق إدوارد سعيد هذا الرأي في كتابه «المثقف والسلطة» على لسان جوليان بيندا صاحب العنوان الشهير «خيانة المثقفين».

لكننا في «الرجل ذو النعل الذهبي» أمام حوار غير مألوف -على الأقل في العالم العربي- بين المثقف والسلطة، إذ يضعنا العمل شهداء على مكيدة خفية يحيكها مثقف يساري (المخرج) مع أصدقائه المثقفين: الياس خوري وفواز طرابلسي وسمير قصير، الذين يبادلونه آراءهم في مجريات العمل، بينما تطل عليهم الكاميرا من علٍ في مشهد يوحي ب-»المؤامرة». أما الشخصية المستهدفة فهي رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الرجل القادم إلى السلطة برافعة الثروة مع مكتسباتها الاعتباطية من الشهرة والمكانة الاجتماعية، التي لم تحمِ صورته من التشظي في مشهد لبناني كامن الفوران.

في فيلمه هذا كما في أفلامه السابقة نجد أميرلاي ينتهج «التوثيق» كمبدأ للتعامل مع الواقع، مع كل ما يحتمله ذلك من فجاجة لا يسعى المخرج لتخفيفها بالخيال. في الوقت نفسه تتلاشى الحدود وتغيب بين الأدوار التقليدية للمسرح: المستضعف والقوي، الجلاد والضحية، الأسلوب الذي يفسح المجال «للإنسان» حتى يقدم نفسه، وربما كان هذا الأسلوب سعياً ماكراً من أميرلاي لامتحان شخصية كالحريري التي يمكن أن تفضحها سجيتها بأي تصرف أو قول أمام عين الكاميرا المرصودة لتفاصيل «شيطانية» في شخصية «الرجل ذو النعل الذهبي».

لكن الحريري في المقابل لم يكن أقل دهاءً، خاصة بعد أن حصل على اعتراف أميرلاي منذ بداية الفيلم بأن صورته (أي صورة الحريري) المزروعة في ذهن هذا المثقف هي صورة «سلبية». وفي تقديري أن ورقة اللعب هذه، التي كشف عنها أميرلاي طواعيةً لخصمه مع بداية اللعبة، هي التي ستوجه ما تبقى من الحوار، إذ سيناضل الحريري من خلال انتقاء كلامه وردات فعله وهدوئه «المستفز» إلى تخييب أمل هذا المثقف اليساري، المعارض بالضرورة، وإبطال الصورة «السلبية» التي جاء بها كما جاءت به إلى بيروت. وسيعترف أميرلاي على مشارف نهاية الفيلم بهذه الخيبة.

المثير في الفيلم كان انتباه الحريري إلى صفة «المثقف» التي يتمتع بها محاوره، مُبدياً احتجاجه الرزين على محاولة أميرلاي -وهذا ادعاء الحريري- أن يفرض عليه ثياب رجل الثروة والسلطة «الجاهل» في حواره مع مثقف متعلم «على باب الله». وأعتقد أنه نجح إلى حد بعيد في الانسلال من هذا الدور، قائلاً بأن ثقافته هو الآخر «لا تشكو من شيء» وأنه لا يمر عليه أسبوع دون أن يقرأ كتاباً أو كتابين. وهذه المحاججة التي يحاول طرفاها التنافس على دور «المثقف» هي في الحقيقة تشي بالتنافس على «سلطة المثقف» التي حدثنا عنها جوليان بيندا، كما أنها ستصيب عميقاً في خاطر مثقف يساري كعمر أميرلاي الذي لا بد أنه سمع أنطونيو غرامشي ينادي في «دفاتر السجن» بأن «كل البشر فلاسفة».

سالم الرحبي كاتب وشاعر عماني

منذ نشوء الدولة القُطرية في مرحلة ما بعد الكولونيالية، وجد المثقف العربي نفسه في علاقة مرسومة بصرامة مع النظام العربي، الأمر الذي ساق شريحة واسعة من المثقفين العرب إلى اليأس واعتزال الحديث في الشأن العام