عُمان وسط إقليم يتجه نحو الراديكالية.. وهذه خياراتها؟
المتابع لماهية التطورات والتحولات التي تطرأ في بعض دول مجلس التعاون الخليجي سينتابه القلق، وهذا أقل ما يمكن توصيفه، ولا أبالغ إذا ما قلت: إن كل يوم يمر على دول المنطقة ستجد فيه بلادنا حدثا من العيار الثقيل، يفرض عليها القيام بأعمال ما يقابل راديكالية ذلك الحدث، كالبراجماتية أو الصيرورة، أي التحول المتسق مع ثوابتها ومجتمعها «بمعنى أنها لا يمكن أن تساير الراديكالية في إحداث تغيير في منظومة علاقاتها الخارجية خاصة مع الكيان الصهيوني، لأن هذا ستكون له انعكاسات سلبية على شأنها الداخلي، كما سيكتشف لاحقا أن الرهانات الأمنية والعسكرية المعاصرة على الكيان ستكون خاسرة من حيث الاستدامة، ومن حيث أجندتها في الخليج.
واللافت في هذه الراديكالية أنها تبني علاقاتها الجديدة مع الكيان على أساس أمني، فالعامل الأمني يقود لتأسيس هذه العلاقات، فقد أقدمت بعضها على اتفاقيات معه لشراء دفاعات أرضية من صنعه، وتدريب أطرها وكوادرها الأمنية والعسكرية، وتحديث منظومتها الأمنية الإلكترونية، وهنا عملية استشراف لهذه التغيرات المثيرة والخطيرة، وينبغي إمعان التفكير فيها من كل نواحيها دون استثناء، ومن منظور أنها تسلم له مصيرها، فهل هو جدير بهذه الثقة التي تمنح له بشيك على بياض.
ويبدو لي كمتابع للشأن الخليجي، أن سلطنة عمان لن تساير هذه التوجهات الخليجية الجديدة في إقامة شبكة علاقاتها الخارجية الجديدة، وأنها اختارت البراجماتية أو الصيرورة، أي التحول في علاقاتها الخارجية مع النظر لعواقبها على مستقبل أمنها السياسي واستقرارها الاجتماعي، وهذا من أهم موجبات التفاعل الإيجابي مع هذه التغيرات الجديدة التي يتبناها بعض الأشقاء والشركاء في المنظومة الخليجية، وهو الخيار العقلاني الذي يتناغم مع الدولة العمانية، وهذه البراجماتية أو الصيرورة قد أصبحت معنية بمواجهة «راديكالية» المتغيرات في الخليج رغم أن تداعياتها لن تسلم منها مسقط.
لأن العلاقات بين بعض الأشقاء مع الكيان ستكون متغلغلة في بنياتهم التحتية والفوقية على مختلف الصعد دون استثناء، وسيستفيدون قطعا من القوانين الخليجية المشتركة، بما فيها قانون الإقامة والتجنيس، وبالتالي، فلن تمنع مسقط من استفادتهم من هذه القوانين، إلا إذا انسحبت من المنظومة الخليجية كما فعلت بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي عام2021، واكتفت بالشراكات الثنائية، وينبغي عدم التقليل من هذا التأثير على داخلنا العماني خاصة في ضوء تحولاتنا المالية والاقتصادية التي تمس جوهر الاستقرار الاجتماعي سواء كان مؤقتا أو دائما.
لكن، أمام براجماتية أو صيرورة مسقط هوامش كبيرة رغم ذلك الهاجس، ويبدو أنها تستغلها الآن في الاتجاه الصحيح - كما تبدو لي - فعندما أمعن التفكر في استجلاء الدوافع العمانية في الخيار العماني، أجد أن وراءه إدراكا عميقا بحجم ثقل الديموغرافي العمانية، ومركزية الأيديولوجيا/ الدين فيه، كما أنها الآن تجني نتائج سياستها الخارجية طوال أكثر من خمسين عاما الماضية.. وربما ذلك سيعينها على تجاوز مرحلتها الانتقالية المؤلمة اجتماعيا إذا لم تطل مدتها، فلا ينبغي إضافة عوامل أخرى تضر بمرحلتها الانتقالية، وبالتالي، لن تصلح لها «الراديكالية» الجديدة، خاصة وأن لديها خيارات كثيرة مضمونة وأكثر أمانا واستدامة من خيار الكيان.
وقد رصدت تطبيقات للمسار العماني، مثل الشراكة الجديدة مع بلجيكا، وهي التي جعلتني أتوصل إلى هذا الفهم في المسارين، التحولات الخليجية، مقابل البراجماتية أو الصيرورة العمانية، فأهم سمات المسار العماني، أن التحولات العمانية في إقامة شبكة علاقات خارجية ذات نفعية شاملة، ومهما كانت أسبابها وظروفها، ستكون ضمن السياقات الطبيعية، وليس قفزا فوقها، وإن اكتسبت صفة التحولات، لكنها لن تنشد التغيير الجذري، والتحول البنيوي في علاقاتها الخارجية، كما هي الآن في «التحولات» الخليجية.
من هنا، لجأت مسقط إلى تطوير وتعزيز علاقاتها مع دولة ذات ثقة، تقع في قلب أوروبا، وتعتبر عاصمة العالم، وتحتضن مقر قيادة حلف الناتو ومعظم مقار الاتحاد الأوروبي، ودولة متقدمة تكنولوجيا، بمعنى أن كل ما تحتاجه مسقط لتأسيس نهضتها المتجددة ستجده في دولة مثل بلجيكا المستقرة والثابتة في جغرافيتها، وذات الجغرافيا المتداخلة والمندمجة في جغرافيات دول أوروبية كبرى، وقد اتخذ شكل هذا التطوير في إقامة شراكات استراتيجية طويلة الأجل مع بروكسل، وما يجري معها، سيمتد إلى بقية أوروبا من جهة والعالم من جهة ثانية.
وقد تجلى لي ذلك من خلال الشراكة الثنائية العمانية - البلجيكية لميناء الدقم، وهايبورت الدقم، وقررتا السعي لإقامة تحالف دولي جديد لإنتاج واستيراد الهيدروجين الأخضر من بلادنا لبروكسل والدول المجاورة لها، وهذا النوع من الطاقة النظيفة والمتجددة، هو مستقبل العالم؛ لأنه يتجه نحو الطاقة الأكثر محافظة على البيئة، وتعمل على تخفيض توليد الغازات في العالم، بما يقلل من ظاهرة الاحتباس الحراري.
وهنا تظهر مسقط أهمية مستقبلية متعاظمة لبلجيكا ولأوروبا، وبالذات الدول المجاورة لها، كهولندا وألمانيا ولوكسمبورج وفرنسا.. حيث ستجد في مسقط كذلك عامل الاستدامة، كون هذا النوع من الطاقة نظيفا وآمنا للبيئة ـ وكونها طاقة ستكون بالقرب من ميناء الدقم الجيوسياسي - والجيواستراتيجي الواقع على البحار المفتوحة، والبعيدة عن الممرات والمناطق التي تشهد توترات مستمرة، وبالتالي، فإن استقرار مسقط داخل محيطها «الراديكالي» بقدر ما هو شأن وصناعة عمانية، فهي دولية أيضا، تتعاظم مع شبكة العلاقات الدولية القديمة والجديدة، ومصالحهم في بلادنا، فمسقط ستصبح هنا مصدرة للطاقة النظيفة والمتجددة لأوروبا، وربما لدول أخرى.
والتحدي الأكبر الذي يقع على الحكومة الآن هو تفعيل منظومة نفعها من هذه الدول بشتى الطرق، وبما يوازي حجم مصالحها الكبيرة في بلادنا، فمثلا، تحتاج نهضتنا المتجددة للتكنولوجيا المتقدمة، وتأهيل جيل جديد لمواجهة تحدياتها، وهنا تظهر لنا بلجيكا مثلا، الدولة الجاهزة في مجالات من هذه التقنية، حيث تعد أول دولة في العالم تنجح في إنتاج البطاقات الإلكترونية الذكية ذات الشريحة المعدنية، وأول دولة في العالم تقوم بتصنيع رقائق البطاطس «المشيسي» وخرج منها عالم الفيزياء الشهير جورج لومير صاحب نظرية «الانفجار العظيم».
النموذج العماني البلجيكي الجديد، يرسم لمسقط رؤيتها الجديدة سواء في مجال تعزيز شبكة علاقاتها الدولية أو الإقليمية، أو انضمام فاعلين جدد إليها وفق معيار البراجماتية أو الصيرورة، ونلمس كذلك في التوجهات العمانية المجرية الشيء نفسه، وقد وجدناه أثناء زيارة وزير الخارجية والتجارة المجري لبلادنا والتي نجم عنها إقامة تعاون استراتيجي بين شركة مول هنجاريا أكبر الشركات المجرية، وشركة النفط العمانية للتسويق.. يظل هذا التوجه الآن، تعميمه على علاقات البلاد مع الشركاء الآخرين، ونخص بالذكر الدول التي منحت لها إدارة وتشغيل موانئ عمانية استراتيجية أخرى، كصلالة وصحار.
فكيف ينبغي أن نعظم الاستفادة من علاقات بلادنا مع هذه الدول الصناعية المتقدمة، وهذا التعظيم يكون له ثلاثة أوجه، الأول، دور هذه الموانئ في تعظيم نمو الاقتصاد العماني عامة، واقتصاديات المحافظات خاصة، استغلالا لموقعها على ثلاثة بحار مفتوحة هي: بحر عمان، وبحر العرب، والمحيط الهندي. والثاني: الدخول معها في شراكات استراتيجية متعددة، كمية ونوعية، تساهم في تحقيق رؤية عمان 2040 من منظور المنافع المشتركة والمتبادلة، والثالث: تحويل البوصلة نحو دول إقليمية كتركيا، ولديها ما يغرينا، ولدينا ما نغريها، والرهان عليها ضمن تعدد متنوع من الشركاء الطبيعيين.
عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بقضايا
الشأن الخليجي