عُمان والبحرين والثّقافة المشتركة
العلاقة بين عُمان والبحرين، أو مجان ودلمون، أو مزن وأوال؛ علاقة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتعاقبت عليهما حضارات السّومريّة والفينيقيّة ومن بعدهم إلى دخولهم في الإسلام مبكرًا وعن طواعيّة منذ بدايات دعوة الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم -، ومكثه في المدينة المنورة، لتتفاعلا في الحضارة العربيّة والإسلاميّة، ولتحتفظ عُمان والبحرين باسمهما منذ القدم وحتّى اليوم، ويحملان إرثًا تأريخيّا وثقافيّا ماديّا وشفويّا تزخر به ذاكرة البلدين على المستويات الحياتيّة والطّقوسيّة والفنيّة والاقتصاديّة ونحوها.
هذه الذّاكرة مليئة بالتّفاعلات والهجرات الأسريّة بينهما، والتّبادل الاقتصاديّ والبحريّ، والتّشابه الدّينيّ، فالنّساطرة امتدّوا من عُمان إلى البحرين، ففي البحرين منطقة الدّير وفيها مسجد الرّاهب، وفي عُمان انتشرت المسيحيّة النّسطوريّة أو الآشوريّة حينها حتّى قال عنها الشّيخ سالم بن حمد الحارثيّ (ت: 1427هـ/ 2006م) في العقود الفضيّة: «إنّ العمانيين قبل البعثة كانوا على الدّين المسيحيّ» أي النّساطرة، كما أنّ قرب البلدين من فارس، وتفاعلهما معها أدّى إلى حضور الزّرادشت قديما في البلدين، كذلك لاحقا امتدّ إليهما الوجود اليهوديّ، لثقله قديمًا في بلاد فارس، ووجودهم في جزيرة العرب واليمن إلى وجودهم في عُمان والبحرين بسبب التّجارة، فاستقرّت الأسر اليهوديّة في البلدين ردحًا من الزّمن، ويذكر هلال الحجريّ في كتابه «عُمان في عيون الرّحالة البريطانيين قراءة جديدة للاستشراق» أنّ روبرت بنينج الّذي توقف في مسقط عام 1850م في طريقه من بلاد فارس إلى سيلان حيث يقول: «أعجب مما عجبت منه هو الاحترام الكبير الذي يكنه مسلمو هذه البلاد - أيّ العمانيين - لذلك اليهوديّ»، وفي البحرين إلى اليوم يوجد كنس لليهود في المنامة قريب من باب البحرين، ويمارسون فيه العبادة، وتوجد أسر يهوديّة لا زالت تعيش في البحرين حتّى يومنا هذا، وهم أقرب إلى الفريسيين أو اليهود الأرثذوكس.
كذلك العلاقات البحريّة بين عُمان والبحرين من جهة، والهند من جهة أخرى؛ أدّى إلى هجرة الهندوس أو ما يطلقون عليهم في الخليج «البانيان»، وهؤلاء وجدوا تعايشا في الخليج، فاستقرّوا فيها، ووجودهم وتفاعلهم قديم جدّا في عُمان والبحرين، ولهم معابدهم ومقابرهم حتّى اليوم، وبينهما خلطة، لدرجة أنّ «ابن عبيدان (ت بعد: 1104هـ) قاضي الإمام سلطان بن سيف اليعربيّ (ت: 1680م) أفتى في البانيان في صحار وهم من الهندوس بأنّهم يسنّ بهم سنّة أهل الكتاب قياسًا على المجوس»، أي الزّرادشت لمّا سنّ فيهم سلمان الفارسيّ (ت: 33هـ) سنّة أهل الكتاب.
ومع الانفتاح الحديث أدّى إلى هجرة أديان انبثقت من الهندوسيّة كالبوذيّة، كذلك السّيخ وهؤلاء خليط بين الهندوس والإسلام، ولهم حضور اليوم في عمان والبحرين والخليج عموما، أيضا هاجر من البهائيين إلى البلدين بسبب المضايقات في إيران، ولهم محافلهم فيهما وفي الخليج، والبحرين اعترفت بالبهائيّة كمكوّن دينيّ في البحرين، ولهم فيها الجمعيّة البهائيّة الاجتماعيّة الّتي تأسّست 2011م، ومجلس جابريّ الثّقافيّ.
وفي نهايات القرن التّاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، ارتبط مع الوجود البريطانيّ في عُمان والبحرين نشاط الإرساليّات المسيحيّة الأمريكيّة، وكان مركزهم في البلدين واحدا، وانطلق من البحرين مع صمويل زويمر (ت: 1952م)، ومن رعاياه في عُمان الطّبيب شارون توماس أو طومس (ت: 1913م)، وواصل بعده ابنه ويلز تومس المشهور عند العمانيين بالطّبيب طومس، وكلاهما أسّسا الكنيسة البروتستانتيّة الكالفينيّة المشيخيّة في البحرين وعُمان، وأمّا في البحرين لا زالت فاعلة، وفيها القسّ هاني عزيز، وفي عمان لا زالت موجودة في مطرح؛ بيد ليس لها حضور، وتحوّل مركزها إلى مركز للرّعاية الدّينيّة تحت إشراف وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، ويعنى بالتّعايش الدّينيّ، وتعريف السّائح من الخارج بذلك وبالتّعدّديّة الدّينيّة والمذهبيّة في عُمان، وفي الجانبين التّعليميّ والصّحيّ بنى زويمر في المنامة مستشفى الإرساليّة الأمريكيّة، والمدرسة الأمريكيّة عام 1906م، وفي عُمان كانت محاولات شارون توماس (ت: 1913م) لبناء مستشفى في مطرح عام 1912م، بيد أنّ السّلطان فيصل بن تركيّ (ت: 1913م) كان رافضا، إلّا أنّ المستشفى تحقّق بناؤه على يد القسّ ديرك دكسترا عام 1930م، وافتتح 1931م، وكما يذكر سليمان الحسنيّ في كتابه «الحملات التّنصيريّة إلى عُمان» أنّ دكسترا عيّن توماس الابن طبيبا في المستشفى، ولهذا ارتبط به، والشّاهد أنّ الإرساليّة في البحرين وعُمان كانت واحدة، وبينهما تشابه في ذلك.
وفي المنامة يوجد شارع أو مجمّع الأديان في البحرين، وهو شارع بالمنامة تتقارب فيه مساجد للسّنة والشّيعة وحسينيات وكنيسة للمسيحيين الإنجيليين وكنيس لليهود ومعبد للهندوسيّة والبوذيّة، وفي عمان في بدايات عهد السّلطان قابوس بن سعيد (ت: 2020م) في رويّ بولاية مطرح يوجد ما يماثل ذلك، ففي شارع واحد يوجد مجمع كنائس فيه الكنيسة القبطيّة الأرثذوكسيّة والكاثوليك الهنديّة والإنجيليّة البروتستانتية، وفيه مكتبة شرائيّة ومدرسة ومقبرة، وقريب منه معبد هندوسيّ وفيه مكان للبوذيّة، ومسجد للسّنّة، وليس بعيدا منه مساجد للإباضيّة ومسجد للشّيعة الإماميّة.
وإذا خرجنا من الإطار الدّينيّ والمذهبيّ إلى الإطار العلميّ والأسريّ، هناك هجرات أسريّة وعلميّة هاجرت بين البلدين، خصوصا لمّا كانت البحرين أوسع من اليوم، وكما يذكر الباحث عليّ الحرز الإحسائيّ أنّه من العمانيين من هاجروا إلى الإحساء وكانت أقرب حينها إلى إقليم البحرين أو الخطّ، يذكر من هؤلاء مثلا «الشّيخ عبد المحسن بن محمد العُمانيّ، والشّيخ محمّد بن يحيى اليحيائيّ الدبويّ العُمانيّ، والشّيخ عبدالله بن محمّد المزروعيّ، والشّيخ غانم بن سالم الشّامسيّ»، ومن العمانيين من أسّس مدارس علميّة هناك كالمدرسة الوسطى لآل الملّا مثلا، ومن الأسر البحرينيّة من هاجرت إلى عمان واستقرّت فيها، ومنهم من يعرف اليوم بالبحارنة، هذه الهجرات كثرت في الخمسينيات والسّتينيات من القرن العشرين، إذ كانت البحرين أكثر استقرارًا سياسيّا ونهضويّا حينها من عُمان، وأسهم العمانيّون في بنائها، ومنهم من تزوّج منهم، ولا زال أبناؤهم وأحفادهم فيها، ومنهم من رجع بعد 1970م، بيد أنّ الوجود العمانيّ أسريّا وسياحيّا وتجاريّا في البحرين لا زال قائما حتّى يومنا هذا، وكذلك يوجد أفراد من البحرينيين من يعيش وتزوّج في عُمان أيضا، واستقرّ فيها حتّى اليوم.
وفي الجانب الثّقافيّ والأدبيّ والصّحفيّ كان للعمانيين حضور مبكر في البحرين، وعلى رأس هؤلاء «عبدالله الطّائي، ومحمّد أمين عبدالله، وأحمد محمّد الجماليّ، وحسين حيدر درويش»، وكانت أقلامهم ظاهرة في مجلّة صوت البحرين 1951م - 1954م، وهي أول مجلّة بحرينيّة، وقد كتب عنهم البحرينيّ حسن مدن في كتابه «كتّاب عمانيون في مجلّة صوت البحرين»، وطبع الكتاب في النّادي الثّقافيّ العمانيّ.
عموما الحديث عن البحرين وعُمان حديث يطول به المقام، وقد كتبت شخصيّا مذكرة كاملة عن رحلتي إلى البحرين 2019م، طبع في كتاب التّعارف عن الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، وممّا قلته في بدايتها «حاولت أن أقرأ الإنسان البحرينيّ عن قرب، فوجدته قريبا جدّا من المجتمع العمانيّ في عاداته وتقاليده، وفي سماحته وتعايشه»، هذا التّقارب لا يقتصر عند الجانب الإنسانيّ وتطوّره، بل حتّى في البنيان والأسواق، والمطعومات والملبوسات، فالحلوى العمانيّة لا تقاربها إلّا الحلوى البحرينيّة، كما أنّ أسواق المنامة والمحرّق وأنت تمشي فيها تتصوّر ذاتك كأنّك في مطرح أو روي أو أسواق عُمان عموما، بيد أنّ الذّاكرة الشّفويّة غنيّة لما يحفظه البحرينيون عن العمانيين، وبعضهم من كبار السّنّ لمّا يحدّثك تسبق الدّموع حديثه، فيحنّ إلى أصدقاء له من عُمان سامرهم في بيوت ومقاهي وأسواق المحرّق، ولا يكاد تجد كبيرا في السّنّ إلّا ويحمل ذاكرة ودّ، حتّى قال لي أحد رجال الأعمال البحرينيين في ليالي المحرّق الأخيرة: إنّه لم تسجل لأيّ عمانيّ قضيّة واحدة في الدّاخليّة، وقال لي آخر وهم يحتفون ببيوت المحرّق: هذه البيوت أسهم العمانيون بشكل كبير في بنائها، وهي شاهدة عليكم ثناء وإحسانا.