علم الآثار ووجود الأنبياء في التاريخ
إلى أي مدى يمكن أن تنطبق قاعدة المنطق الأرسطي التي تقول: «عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود» على بعض مقولات بعض الآثاريين الذين يزعمون في غياب الأدلة الآثارية غياباً محتملاً لشخصيات الأنبياء تاريخياً، وكأن الأدلة الآثارية هي فقط الحقيقة الناطقة على الوجود التاريخي للبشر؟
ومع أن ذاكرة التاريخ الشفاهي للبشر ورواياتهم المتناقلة عن وجود الأنبياء تجعلهم ليس فقط أكثر الشخصيات البشرية في التاريخ ذكراً على الألسنة، بل يمكن القول إن غالبية البشر اليوم في الأرض هم من أتباع الديانات التوحيدية الثلاث، إلا أن ذلك الوجود التاريخي الشفاهي للأنبياء في ألسنة البشر لا يكاد يقوم دليل لدى هؤلاء الآثاريين من أمثال خزعل الماجدي، على سبيل المثال؟
فما البينة التي لا تجعل من هذا التناقل الشفاهي لألسنة البشر عبر الأجيال في إقرارهم بوجود الأنبياء هو بذاته بينة آثارية غير مادية؟ أليس البشر كائنات تاريخية، وأليس ذاكرتهم التي تعكس تمثلها للأديان بما يفوق مجرد الإقرار، أمرًا ذا دلالات عميقة متى ما تأملنا في ذلك؟ الأمر هنا لا يتصل بعقائد إيمانية قد لا تكون حجة أصلا إلا لمن يؤمن بها، وإنما يتصل بظاهرة بشرية لذاكرة أجيال تتوارث تناقلاً شفاهياً لأسماء تلك الشخصيات المقدسة (الأنبياء) كوجود تاريخي ليس فقط متصلاً بالذكر، وإنما كذلك بنصوص وكتب من المستحيل إدراجها ضمن تصنيف عموم مليارات كتب البشر عبر التاريخ، وإنما هي كتب نادرة ومؤثرة الحياة التاريخية للبشر (كتب الأديان الثلاث: القرآن (الإنجيل - التوراة) وفي الوقت ذاته تتشابه صيغها وبنيتها المجازية والتركيبية.
وإذا تأملنا في القرآن وسرده لسير التاريخ البشري فلن نخطئ تلك النظرة التي تربط منهج الأنبياء بفئة الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا عبر التاريخ، ومن ناحية ثانية، لا تكاد آثار ملوك الأرض في كل الحضارات تخلو من ذلك العلو والتمجيد والعظمة على نحو يؤكد الطبيعة الإنسانية وصفاتها في الطغيان متى ما وجد أصاحبها قوة كبيرة وسلطانا باطشا مصداقا لطبيعة استعلائية في الإنسان ذكرها القرآن الكريم في الآية الكريمة: « كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى».
لم يكن في التاريخ القديم - قبل ظهور الأزمنة الحديثة - ما يتوفر على الإقرار الجمعي بالقيم التي يراها البشر اليوم بفضل المعرفة، قيما عاديةً كونية، كحرية الإنسان، وحرية العقيدة، ووحدة الأصل البشري، وكرامة الإنسان والمساواة، سوى وضوح تلك القيم في خط النبوات المتصلة بالأديان التوحيدية، ووجود تلك القيم في التاريخ القديم بحسب آيات بينات في الكتب المقدسة بذاته، يدل بوضوح على أن خط النبوات في التاريخ ليس بالضرورة أن يكون خطاً ذا استعلاء وصيت وأمجاد في ذلك التاريخ!
ومن المهم في هذا الصدد التنبيه إلى أهمية ما أسماه عالم المصريات الألماني الكبير (يان اسمان) «بالذاكرة الحضارية للبشر» التي يقول في تعريفها: «تتعلق الذاكرة الحضارية بأحد الأبعاد الخارجية للذاكرة الإنسانية، إذ يعتقد الإنسان ابتداءً أن الذاكرة هي ظاهرة داخلية محض، مكانها في مخ الفرد، وهي بذلك من مباحث علم المخ والأعصاب وكذلك علم النفس. لكنها ليست على أي حال من مجالات علوم تاريخ الحضارة؛ أما ما تستقبله الذاكرة استقبالًا تعي به مضمون ما تستقبله ودلالاته، مع تأويل هذا وتفسيره وكذلك طريقة انتظام وتنظيم تلك المعاني والدلالات، وكذلك طول المدة التي تستطيع الذاكرة حفظ تلك المعاني، وتفسيرها، فليس هذا كله مرتبطاً بقضية وموضوع المقدرة الداخلية والتوجيه، بل يرتبط بعوامل خارجية كالظروف الاجتماعية والأطر الثقافية والأنماط الفكرية» فتلك الذاكرة كما يقول اسمان هي «البناء الرابط للمعرفة المشتركة وللصورة الذاتية».
أما المفكر الألماني من أصول إيرانية نفيد كرماني، فيؤكد ما ذهب إليه (يان اسمان) حين يقول: « وكما أن الفرد لا يستطيع أن يكوِّن هويته الشخصية إلا بقوة ذاكرته وقدرته على حفظها على مر الأيام والسنين، فكذلك لا يمكن لأي جماعة أن تسترجع هويتها الجمعية إلا عن طريق الذاكرة، ويتركز الخلاف بين الهوية الفردية والهوية الجماعية في أن الأخيرة ليس لها عضو عصبي تشريحي، وإنما الحضارة هي هذا العضو الحافظ. والحضارة هي بناء معرفي مؤكد للهوية يظهر في هيئة أشكال رمزية».
لذا حين يقول (يان اسمان) ملخصا معنى الذاكرة الحضارية: «لا يبقى في الذاكرة إلا المهم من الماضي، وليس بماض مهم إلا الماضي الذي يتذكر» أليس في هذه العبارة الذهبية ما يجيب عن سؤال لماذا يبقى الأنبياء في ذاكرة البشر؟