طمأنينة.. شجاعة.. حكمة
ثمة مأزق وجودي لا يبدو أن العمر (ليس إلى الآن على أي حال) والتجربة يُعينان على التعامل معه. أعني السعي لتحقيق التوازن بين ما نُريد (أجرؤ على القول أيضا: ما يُسعدنا) من جهة، وبين ما يصب في صالحنا، ما يُحسّن فرصنا في العمل مثلا، أو يضمن لنا دخلا أعلى أو إضافيا. لا يتوقف العناء -كما حسبنا ونحن صغار- بانتهاء المدرسة. تكشف لنا سريعا أن المطالبة بأن نُحسن أنفسنا، ونصقل مهاراتنا، ونتعلم آلات ولغات، لن ينتهي أبدا. شيء ما يصرخ بنا أن نضاعف الجهد ونستمر في التعلم والصقل والتحسين، فنجري ونجري دون لحظة نلتقط فيها أنفاسنا لنفكر بوضوح ما إذا كان التوقف عن الجري خيارًا.
أعيش منذ فترة الآن مرحلة انتقالية (طالت أكثر مما يجب)، ووجدتني أسوق لصديقتي -وقد سألتني عما إذا كنتُ أُفكر بالاستقرار في عُمان- أسباب ترددي، ومن بين ما قلته إن الحياة في ألمانيا تُجبرني على التحدث بثلاث لغات. إجابة دفعتني لتأمل طويل: كيف يُسهم هذا في رفاهي؟ أعني لولا الضرورة من سيختار يا ترى أن يتحدث بغير لغته الأم؟ صحيح أن ثمة متعة في استخدام لغات جديدة، ثمة متعة أيضا في تعلمها؛ لأنها تكشف لك ثقافة جديدة، أو تعالقات لغوية مثيرة، لكن لا أظن أن هذا ما قصدته وأنا أجيب. ما قصدته على الأغلب متعلق بزيادة فُرصي المستقبلية، أكثر من تعلقها بإثراء حياتي.
لنفكر بالأمر هكذا، بأي شكل تختلف هذه المسألة أو تتشابه مع مشكلة من نوع: هل آكل قطعة الحلوى التي أرغب بها، مع علمي أنها -على الأغلب- تؤثر سلبا على صحتي؟ إنها المسألة القديمة حول أن تختار ما ترغب به أو ما يصب في صالحك، وهي أيضا المشكلة القديمة حول تقديم العائلة/ الحب على العمل، أو العكس.
والآن كيف لنا أن نحل مثل هذه المعضلات. يُمكننا الاستفادة من تقنيات اتخاذ القرارات عندما تكون محتارا بين أمرين. أعني أن تزن الحسنات والمساوئ. رغم أننا في النهاية -وفي الغالب- سنتبع حدسنا ببساطة.
لكن يختلف السيناريو الأول عما عداه في أن النتيجة النهائية (ما يسرك، مقابل الأفضل الذي «قد» يأتي) معروفة، أنت تُجرب أن تعيش هنا وهناك وتعرف كيف هي حياتك (بكل ما فيها من عوامل ومتغيرات مُدركة أو غير مدركة). بالتالي يتحول السؤال إلى مشكلة رضا: هل ترضى بما لديك، أو تسعى لتغييره. وما إن نصل هذه المنطقة فالسؤال المباشر التالي يكون: ماذا لو لم تكن هناك أي جدوى من محاولة تغييره؟ فقط لتقفز إلى أذهاننا الصلاة الشهيرة: «رباه، امنحني الطمأنينة لقبول الأشياء التي لا يمكنني تغييرها، الشجاعة لتغيير الأشياء التي أستطيع تغييرها، والحكمة لمعرفة الفرق بينهما».
السرور (حتى نتجنب السعادة)، أو الرفاه ربما، أُريد أن استبدله بكلمة أخرى: الراحة. أن تكون مرتاح البال، مرتاح في معيشتك، مرتاح ببساطة. قد لا يتوفر لك أفضل ما يُمكن أن يتوفر لك، لكنه جيد بالقدر الكافي، القدر الذي يقول لك حان الآن لتكف عن الجري. ثمة خطر أن تتحول الراحة إلى الأسونة، لكن يبقى أن بإمكان المرء أن يتحرك ضمن نطاق لا يُهدد راحته إلا بالقدر الأدنى.
لا يبدو أن أيا منا بخير، كل من نعرف يُعاني بطريقة أو أخرى، ولا يبقى لنا إلا أن نجتمع في جماعات مصغرة مع من يُشاركوننا الهموم ذاتها لتكون لنا دوائر «راحة» نتحرك ضمنها، تدعمنا، وتدفعنا نحو أفضل يسير لا عسير.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم