صون البيئة واستدامتها
يواجه العالم العديد من التهديدات الوجودية الخاصة بتغيُّر المناخ ومخاطر فقدان التنوُّع البيولوجي والكثير من الموارد الطبيعية؛ فالاحترار العالمي وما يسببه من انبعاثات ناتجة عن الممارسات البشرية والأنشطة الصناعية، يُعد من أهم تلك المسببات التي تُهدِّد قدرة الطبيعة على تجاوز العديد من الآثار المباشرة على تغيُّر المناخ وبالتالي فإن دول العالم جميعها تسعى بما تقدمه من جهود للتخفـيف من آثار تلك المخاطر، والحد من فقدان التنوع البيولوجي الذي ستكون نتائجه كارثية على البيئة.
إن السياسات الرامية إلى التخفـيف من حدة المناخ العالمية تعمل على تشجيع أنشطة خفض الانبعاثات بُغية تحقيق الأهداف المتعلقة بالحفاظ على البيئة صونها، وعلى رأسها خطة الحياد الصفري بحلول 2050، الأمر الذي يدفع العالم إلى إيجاد مجموعة من النظم والضوابط التي يمكن من خلالها التحكم فـي نسبة الكربون والانبعاثات من ناحية، وتقنين الأنشطة التي يمكن أن تكون مساعدة لنظم التحكم من ناحية أخرى.
يخبرنا تقرير (التخفـيف من آثار تغير المناخ والحفاظ على التنوع البيولوجي)، الصادر عن الاتحاد الدولي لصون الطبيعة ومواردها (IUCN)، أن هناك مجموعة من الأنظمة والآليات والسياسات التي قدمتها بلدان العالم لتحقيق تلك الأهداف والمبادرات مثل «آلية التنمية النظيفة (CDM)»، والتي تمتد إلى الكثير من الأنواع والأشكال التي مثَّلت أدوات السوق بأنواعها مثل؛ «أنظمة تداول الانبعاثات (ETS) ...، وضرائب الكربون، وبرامج تعويض/ اعتماد الكربون الطوعية»، إضافة إلى تلك المبادرات والمشروعات التي تُسهم بشكل عام فـي الحد من مخاطر الكربون والانبعاثات على البيئة.
وعلى الرغم من الجهود المختلفة التي تقدمها الدول فـي سبيل الحفاظ على البيئة وصونها، فإن هناك مخاوف لا تزال قائمة خاصة فـي ظل انتشار التصنيع ومخاطر التقنيات الحديثة وغير ذلك، مما يشير إلى أهمية تكاتف الجهود من أجل التكامل والتشارك فـي تنفـيذ أهداف التنوع البيولوجي وإدارة النظام الإيكولوجي، والحد من الآثار المحتملة لتلك الانبعاثات، وأهمية الاستفادة من التقنيات الحديثة فـي التقليل من المخاطر، وزيادة إسهامات التنمية النظيفة فـي الدول والتوعية بأهميتها.
ولعل الدور الذي يقوم به القطاع الخاص والمدني يشكل إضافة مهمة لما تقدمه القطاعات الحكومية؛ إذ يضطلع القطاع الخاص من خلال برامج المسؤولية المجتمعية إلى تنفـيذ المبادرات التي تسهم فـي الحد من آثار تغيُّر المناخ، والعمل على تنفـيذ أنظمة الدولة المتعلقة بالصناعات والتجارة، والاستثمار المباشر فـي التخفـيف من آثار ذلك التغيُّر، وانعكاساته على الحياة البشرية، إضافة إلى البرامج التطوعية التي تضطلع بها مؤسسات المجتمع المدني، وما تنفذه من مشروعات تُسهم فـي توعية أفراد المجتمع بأهمية الحفاظ على البيئة وتنوُّع الموارد الطبيعية والوراثية.
ولأن الدولة تحرص على تركيز الجهود على تحقيق أهداف صون البيئة واستدامتها، فإنها تأخذ تلك الأهداف فـي الاعتبار سواء من خلال إيجاد سبل التوازن بين التنمية الاقتصادية والتقنية وحماية البيئة ومواردها، أو من خلال الاستراتيجيات الوطنية المتعلِّقة بالتكامل بين القطاعات بما يحمي الموارد الطبيعية والوراثية والبيئية؛ حيث عملت على إيجاد إدارة فاعلة للموارد المائية، وبرامج صون البيئة البريِّة والبحرية، ودعم استخدامات الطاقة المتجددة وتعزيز آفاق الصناعات المرتبطة بها، إضافة إلى تلك الجهود الخاصة بالتوجُّه نحو ما يُسمى بالتنمية الخضراء المستدامة.
فبحسب العديد من التقارير فإن عُمان تحرز تقدما لافتا فـي برامج حماية البيئة؛ إذ عملت على تطوير العديد من التشريعات الخاصة بإدارة البيئة وصونها، وتعزيز التنوُّع البيولوجي، وقدَّمت برامج تهدف إلى تقليل استهلاك الطاقة والمياه ضمن مشروعات (التطوير العمراني المستدام)، وكذلك برامج إدارة النفايات وإعادة التدوير، وتلك البرامج التي تعزِّز حماية الحياة البرية والتنوع البيولوجي، وموارد المياه، إضافة إلى الاستثمار المباشر فـي الطاقة المتجدِّدة ضمن مشروعات (مجمع عمان للطاقة الشمسية) وغيرها.
إن دور عُمان فـي الحفاظ على البيئة واستدامتها لا يقتصر على المستوى الوطني وما تقوم به من برامج ومبادرات، بل يتعدى ذلك إلى الدور الإقليمي والعالمي من خلال عضويتها فـي الكثير من المنظمات والاتحادات الدولية المتخصصة فـي هذا المجال، ولعل جائزة اليونسكو - السلطان قابوس لصون البيئة التي أُنشئت فـي العام 1989، بمنحة كريمة من لدن المغفور له السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمه الله تعالى وغفر له- وبموافقة وترحيب من قِبل منظمة اليونسكو، تُعد أحد تلك الأدوار المتعددة التي تقوم بها عُمان عالميا.
تُقدَّم جائزة اليونسكو - السلطان قابوس لصون البيئة التي مُنحت للمرة الأولى فـي العام 1991م، ضمن برنامج (الإنسان والمحيط الحيوي) فـي اليونسكو، وتُسهم فـي دعم تلك المبادرات والأدوار البارزة التي يقدمها الأفراد أو المجموعات أو المؤسسات أو المنظمات فـي المجالات البحثية الخاصة بالبيئة وصونها واستدامها والأنشطة المرتبطة بذلك سواء أكان فـي التعليم أو التدريب، أو التوعية أو إدارة البيئة والمناطق المحمية؛ فهذه الجائزة تُعد انعكاسا مباشرا للاهتمام الذي يحظى به هذا القطاع الحيوي الذي يؤثر على حياة المجتمعات تأثيرا مباشرا.
إن هذه الجائزة فـي عالميتها حققت الكثير من أهداف حماية البيئة، وشجَّعت العديد من الدول على المضي قدما فـي حماية البيئة واستدامتها، خاصة تلك الدول التي تعاني مخاطر التلوث الكربوني بشكل متزايد، ولقد مُنحت هذه الجائزة منذ إنشائها إلى العديد من المؤسسات والمراكز البحثية وكذلك الأفراد البارزين؛ بدءا من مركز الدراسات والبحوث المكسيكية فـي العام 1991، ثم العالم التشيكي جان جينيك فـي العام 1993، ثم فـي العام 1995 حصلت عليها السلطات البيئية الملاوية وهكذا.
ولقد تم الإعلان فـي العشرين من نوفمبر الحالي ضمن الاحتفال بانعقاد المنتدى العالمي للعلوم فـي بودابست (المجر)، عن الفائز لهذا العام بالجائزة وهو (الصندوق الاستئماني للتربية البيئية فـي صحراء ناميب)؛ وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى (التنمية المستدامة والتربية البيئية) بحسب بيان اليونسكو -إذ يُجسِّد هذا الصندوق (الروح الجوهرية لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي... المتمثِل فـي بناء السلام فـي عقول الرجال والنساء)، من خلال ما يقدمه من برامج ومبادرات تفاعلية لأفراد المجتمع تُعنى بالتعليم من أجل التنمية المستدامة؛ حيث درَّب الصندوق خلال عامين مئات المعلمين عبر تنفـيذ أكثر من (740) نشاطا متخصصا فـي مدارس متعددة فـي أنحاء ناميبيا.
إن حصول مثل هذه البرامج وغيرها على جائزة اليونسكو - السلطان قابوس لصون البيئة، يمثِّل تعزيزا مباشرا ودعما لتحقيق الأهداف البيئية على مستوى العالم، ويبرز دور سلطنة عُمان كونها من بين (الدول العشر الأكثر اهتمام وعناية بالبيئة على المستوى الدولي)، فهذا الدور لا يقل أهمية عن الدور الوطني الذي تضطلع به فـي حماية البيئة واستدامتها، وتقديم أفضل الممارسات الداعمة للتوجهَّات الوطنية والدولية.
فما تقدمه الدولة من أدوار فاعلة فـي حماية البيئة وصونها واستدامتها، لا يتمثَّل بما تقوم به المؤسسات باختلافها، بل إن للأفراد أدوارا مهمة من خلال العديد من الممارسات والأنشطة التي قد تُسهم فـي تلك الحماية، وتدعم التوجهات الوطنية والدولية، وتقدِّم مبادرات لها أثر كبير فـي حماية بيئتنا، فلنكن جميعا مساهمين فاعلين فـي حماية البيئة من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة.