صناعة الترفيه والسياحة المحلية
تعتبر السياحة المحلية من أهم القطاعات المحورية في صناعة السياحة العالمية؛ إذ تقدِّم نفسها باعتبارها قطاعا يسهم في التنمية الاقتصادية، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى الأدوار الاجتماعية والثقافية التي تؤديها، ولهذا فإن العالم خاصة بعد ما عاناه من أزمات خلال جائحة كوفيد 19، ينظر إلى السياحة المحلية بوصفها قطاعا قادرا على النمو والازدهار خاصة في ظل التوقعات العالمية بازدهار القطاع الاقتصادي.
إن تطوُّر السياحة المحلية في أية دولة يفتح آفاقا لانتعاش أنماط السياحة المختلفة، ويهيئ الظروف لنمو الاقتصاد وتطوير البُنى الأساسية، وبالتالي فإن إيجاد البيئة المناسبة لازدهار السياحة المحلية يحفِّز الإقبال عليها، ويقدِّمها كخيار أساسي للترفيه والتعلم، سيما خلال فصل الصيف والإجازات الذي غالبا ما يكون متنفسا للسفر والسياحة وقضاء الوقت على الأسر.
فمن بين دوافع السياحة المحلية خلافا عن الخدمات المشاركة في الأنشطة التي تُعد محور هذا النوع من السياحة؛ فبالإضافة إلى المعالم السياحية الحضارية والثقافية (القلاع، والحصون، والمتاحف ...)، والمواقع الطبيعية (المزارع، والغابات، والأودية وغيرها)، تتصدَّر الأنشطة قائمة تلك الدوافع التي تحفِّز المشاركة السياحية على المستوى المحلي، لتصبح أساس السفر الداخلي والاستمتاع بتجارب جديدة سواء أكانت رياضية أو ثقافية أو علمية أو غير ذلك.
إن فهم دوافع السياحة المحلية ومراجعة السياسات التي تحفِّز أنماط هذه السياحة، والقدرة على جذب الزوَّار والسُيَّاح إلى مواقع ترفيه ومناشط ذات آفاق تتواكب مع المتغيرات ومحفِّزة للإبداع والمشاركة، تجعل من السياحة المحلية قوة محفِّزة وداعمة للتنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بل وحتى التنمية البيئية؛ ذلك لأن الأنشطة تدعم التوجهات الحديثة في الحفاظ على الطبيعة من خلال ما يُسمى بـ (السياحة البيئية).
يخبرنا تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) (السياحة. الاتجاهات والسياسات 2024)، أن السياحة قد انتعشت بعد الانخفاضات الحادة التي حدثت في العامين 2021 و2022، ولقد كانت السياحة المحلية (محركا مهما للطلب السياحي والانتعاش في العديد من البلدان ... مما مكَّن هذا النشاط المحلي المستدام من المساهمة المباشرة للسياحة في الناتج المحلي الإجمالي بواقع 3.9%)، ويتوقع التقرير أن السياحة المحلية ستظل مزدهرة على الرغم من الضغوطات الاقتصادية المستمرة، إلاَّ أن هناك نموًّا مطردًا في القطاع الاقتصادي -بحسب التقرير- سينعكس على ازدهار السياحة خلال العامين 2024 و2025.
وبالإضافة إلى ذلك فإن منظمة السياحة العالمية تتوقع انتعاش السياحة خلال هذا العام، وهو أمر مبشر سيكون له تأثيره على السياحة المحلية، وقدرتها على فتح فرص جديدة للاستثمار خاصة بين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إلاَّ أن ذلك سيعتمد على الفرص المتاحة التي توفرها الدول من ناحية، وقدرة الموارد البشرية المؤهَّلة على تطوير هذه الصناعة؛ فانتعاش السياحة المحلية مرهون بالقدرة على التطوير والنظر إليها بوصفها قطاعًا تنمويًّا مستدامًا يدعم الرفاه الاجتماعي ويُسهم في تحقيقه، والأمر هنا يتعلَّق بتلك الإمكانات المتاحة للتطوير الإستراتيجي والتكيف مع دينامية البيئة والمجتمع، وحاجات الوجهات السياحية والمؤسسات الداعمة لها، إضافة إلى تمكين تلك الوجهات وتطويرها بحيث تكون مواكبة للتطورات التكنولوجية السريعة، ودعم الموارد لتعزيز قدرة هذا القطاع على جذب السُيَّاح والزوُّار للمساهمة في الانتعاش الاقتصادي، وتعزيز دور التجارة والشركات المحلية.
إن السياحة تُعد من بين الفرص التنموية التي تعتمد على الموارد البشرية والطبيعية، إضافة إلى الموارد الحضارية والإرث الثقافي، ولهذا فإن دعم تلك الموارد بالأنشطة الكبرى ذات المردود الاقتصادي والاجتماعي الأوفر هو الأساس الذي يمكن التعويل عليه؛ فما تقدمه المؤسسات المعنية من عناية فائقة بهذا القطاع، وما نشهده من تطوير وتوفير للإمكانات في العديد من تلك الموارد، يجب أن تتبعه جهود من المحافظات والمؤسسات المدنية الأهلية، والقطاع الخاص في تقديم مناشط وبرامج ذات آفاق أكثر استدامة ولا يعتمد على الموسمية وحسب.
فلقد أولت الدولة اهتمامًا كبيرًا بالقطاع السياحي بوصفه قطاعا تنمويا واعدا، قادرا على فتح فرص الاستثمار والتوظيف وتعزيز المشاركة الفاعلة بين المساهمين، لذا فإن هذا القطاع يشهد نموا متزايدا بحسب الإحصاءات والمؤشرات الدولية والمحلية خاصة على مستوى السياحة الخارجية وأعداد السُيَّاح من دول العالم، والذي جاء نتيجة العديد من الجهود والمبادرات وتكثيف التسويق من قِبل المؤسسات المعنية بهذا القطاع.
ولأن السياحة تعتمد على النشاط الإنساني من حيث الحركة والتنقُّل، فإنها تقوم في الأساس على قوة الجذب، والأمر هنا لا يرتبط بالمُناخ والجو إن كان معتدل الحرارة أو غير ذلك، بل بالإمكانات والخدمات المتوفرة والبُنى الأساسية، وكذلك جاذبية أنماط الترفيه سواء أكانت ترفيه عامًّا أو رياضة أو تعلُّمًا أو ثقافة أو غير ذلك، وبالتالي فإن ما نشهده خلال هذه الفترة من فعاليات وأنشطة متفرقة هنا وهناك في المحافظات المختلفة، لا يُعد نمطا جاذبا من المبادرات والفعاليات التي يمكن أن تحفِّز على المشاركة والتفاعل على المستوى الجماهيري، والتي يمكن أن يُطلق عليها (صناعة) للترفيه.
إن ما تحتاجه السياحة المحلية خاصة خلال فصل الصيف هو نماذج أساسية من صناعة الترفيه، تجذب المجتمع وتحفز أفراده على المشاركة الفاعلة بدلا من اللجوء إلى السفر خارج الدولة للاستمتاع بما تقدمه دول أخرى قد تكون مجاورة وربما ذات درجات حرارة أكثر ارتفاعا، فالحال هنا يتعلَّق بتلك الخدمات والأنشطة اللافتة التي تقدِّم نفسها باعتبارها فرصا للترفيه والإمتاع والمعرفة، ولذلك فإن إيجاد مناشط تتسم بالجِدة والحداثة والابتكار سيجعل منها قوة جذب مستدامة.
ولعل إمكانات المحافظات وما تقوم به من جهود يؤهلها إذا ما أرادت المساهمة الفاعلة في تطوير السياحة المحلية وجذب أفراد المجتمع وإنعاش المؤسسات العاملة فيها، وفتح فرص مشاركتها الفاعلة في تنمية المجتمع، وبدلا من توفير المناشط التعليمية وحسب -على أهميتها- فإن عليها أن تفتح مجالا أوسع وأرحب لمجالات الترفيه وتوفير مساحة ثقافية واسعة تُسهم في إنعاش السياحة المحلية، وتطوير البُنى الأساسية التي تدعم الخدمات وتوفِّر بيئة صحية نابضة بالحياة.
إن السياحة المحلية أحد مؤشرات التنمية السياحية والاقتصادية المهمة والتي تدعم النمو المجتمعي، والقدرة على استثمار الموارد البشرية والطبيعية والحضارية، وفتح فرص المشاركات والتفاعل، إضافة إلى توفير بيئة داعمة للتطوير والإبداع والابتكار، مما يُسهم في تفعيل ما يُعرف بـ (الوعي السياحي) لدى المجتمع، الذي يوفِّر إدراكا وفهما لأهمية السياحة وقدرتها على المساهمة في قطاعات التنمية، وتقديرا للتنمية السياحية وإمكاناتها.
فالسياحة المحلية لن تنتعش سوى بالفهم الواعي بأهميتها وارتباطها بالقطاعات، والمساهمة الفاعلة من لدن المحافظات والمؤسسات المدنية والخاصة، ومشاركتها في تقديم صناعة ترفيه قادرة على الجذب والاستدامة، بما يدعم التطورات التقنية التي تتميَّز بها الدولة، والاستثمار الثقافي والإبداعي الذي يمكن أن يشكِّل جوهرا لهذه الصناعة.