صلاة التراويح ومكبرات الصوت
يدخل رمضان وتتكرر جدليات متعلقة به سنويا، كجدلية فتح المطاعم في نهار رمضان للمسافر المرخص له في الأكل بنص الكتاب، وغير المسلم غير المخاطب بفروع الشريعة على الأشهر، وقضية فطر أصحاب ذوي الأعمال الشاقة في نهار رمضان، وهل يدخل في آية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة/ 184]، وقضية القرنقاشوه أو القريقيعان، وقضية هل تتكرر ليلة القدر أم لا.
هذه الجدليات وغيرها قديمة، وليست حديث اليوم فقط، وإن اختلفت صورها، فهي حاضرة في كتب التراث والأثر والفتاوى بشيء من الانشراحة، ولا يوجد ذلك العنف والأحادية التي نراها في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في الجملة، فمن اقترب منها وناقشها، أو مجرد طرحها؛ يجد عنفا لفظيا وتنمرا، وكأنه هدم الإسلام بالكلية، أو كأن الإسلام ضعيف ينهدم بطرح مثل هذه القضايا وغيرها!!!
ولا نجد في المقابل تلك الأطروحات التي تحفر في كتب التراث، وتراجع مآلات النص وتأويلاته، ومصاديقه الزمكانية، من كافة الأطراف، فالناس مالوا إلى تسطيح المعرفة، وكما يسميها القرضاوي (بالسندويشات السريعة)، وقد لا يتحقق بشكل طبيعي أن نطالب الجميع بأطروحات عميقة، فهذا أقرب إلى التخصص، يقابله بشكل طبيعي أن وسائل التواصل الاجتماعي يتعامل الجميع معها حسب توجهاتهم وتخصصاتهم وقدراتهم المعرفية، مع تمايزهم في أعمارهم ومداركهم، وهذا يؤثر فيما يطرح عمقا أو ما هو دونه، ولكن –كما أسلفت– لا يعني بهذا أن نقابل هذه الأطروحات بالتنمر أو الاستخفاف أو السب أو الشتم، بل هي حالة صحية لقراءة الواقع، وكيف يفكر الناس، مع حقهم في السؤال والتعبير عن خواطر الذات.
وفي بداية هذا الشهر الفضيل كان الجدل حول صلاة التراويح ومكبرات الصوت، فهناك من هو معارض لهذه الفكرة، ويراها من التشويش الصوتيّ المؤذي لغير المصلين، كالمرضى أو كبار السن أو النائم أو عند غير المسلمين، خصوصا لمّا تتقارب المساجد، فيحدث تداخل في الأصوات، أقرب إلى التلوث الصوتي، في بلد لم يعتد على ذلك الصخب كما في مدن كبرى في العالم، تعاني من هذا التلوث الصوتي، ولأنه بفتح مكبرات الصوت أثناء الصلاة يتعارض مع قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204]، بينما الناس ملتهون بالحديث والحركة والبيع والشراء، ومشاهدة التلفاز، وبرامج الهاتف، فلا غاية متحققة هنا، وإنما هي متحققة داخل المسجد؛ لأن الناس حضروا للصلاة وسماع القرآن، في نافلة التراويح، كذلك بعض المقرئين أصواتهم مرتفعة ومزعجة، خصوصا مع مكبرات الصوت الخارجية، وغالبا ليست ذات جودة في نقاء الصوت، فهذا يحدث بعض الصخب في الخارج.
ويقابل هذا الفريق رأي معارض بأن فترة صلاة التراويح قصيرة، لا تتجاوز الساعة، فهناك حفلات الغناء الساهرة الطويلة التي لا تستنكر، ولأن بعض كبار السن والنساء يرون في ذلك جمال رمضان، واعتادوا عليه، وهو إظهار لعظمة الصلاة، وتذكير بها، وتكون في أول الليل، فلا تؤذي نائما في العادة، ولا تضر أحدا في الجملة، فلا نحتاج إلى مثل هذا التهويل.
هذان الرأيان يشكلان حالة طبيعية، فلا الرافض كافر بالقرآن، كاره للإسلام، فهذه مسائل وظيفية تحت دائرة الوسائل، لا علاقة لها بالدين، فلا يحتاج إلى ذلك الإيذاء اللفظي مع التنمر، ولا المؤيد هدفه إيذاء الناس، وإنما مدار هذه كأي وسائل وظيفية في الحياة، تبدي الناس حولها آراءها، فهناك من ينظر إليها من زاوية قد يراها الآخر من زاوية أخرى، والرأي في النهاية لأصحاب القرار، قد يوسعون فيها وقد يضيقون لمصلحة عامة تشمل الجميع، وقد يضيقون في مكان ويوسعون في مكان آخر، لاختلاف المصلحة، ومدى تحقق الضرر.
فهناك من القرى الصغيرة أو شبه المتوسطة، يسكنها غالبا أناس من قبائل متقاربة، وعوائل متصاهرة، لا ينزعجون لرفع مكبرات الصوت، فاعتادوا على ضجيج رمضان، بصريخ الأطفال ولعبهم، وجلسات السمر والسهر بعد التراويح خصوصا، فهي وإن قلت في السنوات الأخيرة، إلا أنها في القرى ما زالت أكثر حضورا، فيراها الناس من جمال رمضان، فلا يتأففون لذلك.
بيد أن هناك من المدن كغالب مدن مسقط مثلا، أصبحت خليطا من العمانيين أنفسهم، ومن غيرهم من الجنسيات الأخرى، ومن المسلمين وغير المسلمين، وفيها من الملهيات ما تجعل الناس موزعين في (المولات) الكبار والحدائق والشواطئ والملاعب والمنتزهات، التي عادة لا توجد في القرى الصغيرة، فلا يحدث ذلك الضوضاء الكبير في الطرقات، كما تتقارب فيها المساجد، وتعلو مآذنها البيوت، فهذه بلا شك تحدث ضوضاء مع تقارب الأصوات، وبعضهم يبالغ فيفتح مكبرات الصوت حتى وقت المحاضرات خصوصا بعد العصر، ومحاضرات بعد الجمعة، فهذا لا يتحقق منه الغاية من جماليات المسجد، القائمة على السكينة والهدوء، فيتلذذ الإنسان فيها لسماع القرآن الكريم، والاختلاء بالذات مع الخالق، مع فضيلة التعارف والالتقاء بالآخر، وهذه الغاية من المسجد.
بينما رفع مكبرات الصوت بهذه الطريقة لا أعرف ما الغاية الكبرى التي ستتحقق منها، ويمكن للإنسان أن يفتح جهاز التلفاز، أو حتى هاتفه، ويسمع القرآن الكريم، بصوت مرتل وواضح، إن كان قصده السماع، والتـأمل لكتاب الله تعالى، أو أن يسمع ما يشاء من المحاضرات، وكيفما يشاء، في أي وقت يشاء.
أما قضية «حفلات الغناء الساهرة الطويلة التي لا تستنكر»، فهذه عادة تكون لفترات متباعدة، وليس في التجمعات السكنية، وعادة في الأوبرا أو قاعات مغلقة، أو على الشواطئ، إلا إذا يقصد وقت الأفراح والأعياد، فهي أيضا حالات ظرفية متباعدة، وفي مكان واحد عادة، على أنني أيضا ضد تلك الحفلات المتعلقة بالأعراس التي تستمر ليومين أو ثلاثة، فلا يتوقف صخب الغناء حتى قريب الفجر، فهذه لم أعهدها سابقا، وهي حالة غير صحية، وتحدث إيذاء وتلوثا صوتيا، فينبغي تهذيبها بالشكل المعتدل، بلا ضرر ولا ضرار، وهكذا فيما يتعلق من بعض الفنادق القريبة من مساكن الناس، فهذا راجع إلى سوء التخطيط من الابتداء، فللساكن حقه في السكينة والهدوء.
وأما المحاضرات الفكرية والثقافية تكون عادة في قاعات مغلقة، يحضرها من يريد الحضور، فلا معنى لفتح مكبرات الصوت الخارجية في المساجد وقت المحاضرات، فمن أراد الحضور والسماع فله ذلك، كأي فعاليات دينية أو ثقافية أخرى، والناس لا يكرهون على سماع الموعظة، وإنما يحببون فيها، ليدركوا جمالية ذلك في الخطاب والإلقاء والوسائل والإقناع.
وأذكر في إحدى سنوات رمضان في بداية الألفية الجديدة، سكنت في شارع في إحدى المدن العربية، وكان الشارع فيه أكثر من مسجد متقارب، فكانت أصوات مكبرات الصوت لصلاة التراويح متداخلة، ومزعجة بشكل كبير، وكانوا يطيلون الصلاة، فما أن تتوقف التراويح، ويبدأ الهدوء، إلا ويفتحونها مرة أخرى في الثانية ليلا مع صلاة الليل، وستفتح مرة أخرى مع صلاة الفجر، فلا تستطيع النوم إلا بعد الفجر؛ ليذهب يومك سدى، وهذا ما أخشى أن يحدث مستقبلا عندنا، فهذا يتعارض مع رسالة دور العبادة ذاتها، ومنها المساجد، فهي قائمة في الأصل على جمالية الذكر والسماع والعبادة، وجمالية نظافة المكان وترتيبه، وجمالية الالتقاء والصلح ونشر المحبة بين الناس، وجمالية مساعدة المحتاج والسؤال عن المريض وأصحاب النوازل العارضة، فلا معنى أن تجعل المساجد في دائرة من يسهم في التلوث والإيذاء الصوتي، ولا يقاس على غيرها من الملاهي؛ لأنها مرتبطة بالتجمعات السكنية قلت أم كثرت، فينبغي أن يرى الناس جمال الله فيها، وجمال ما تبثه من نظام ونظافة ومحبة وسلام ورحمة للعالمين.