شروخ في مواطنة غربية قيـد المراجعة
قامـت الدولة الحديثة -على نحو ما يصف مارسيل غـوشيه، الفيلسوف الفرنسي، تكوينَها- على مزيجٍ تركيبي بين عوامل ثلاثة: عامل سياسي وعامل اجتماعي- تاريخي وعامل الحـق، فتكون بهذا التركيب نموذج الدولة الوطنية في صيغته الديمقراطية الليبرالية؛ وهو نموذجٌ استتب له الأمر وساد لفترة امتدت منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى العام 1980. غير أن المعادلة التركيبية هذه ما لبثت أن شهدت على انقلابٍ فيها تغيرت به بنيتها؛ حيث ما فتِئنا بعدها «نشهد على انتقامٍ للحق و، بالتزامن، على كسوفٍ للسياسي وللاجتماعي- التاريخي»، على ما يقول مارسيل غوشيه؛ وهو التحول الذي حصل من طريق الترجيح المتزايد لكفة الحق (= حقوق الأفراد خاصةً) وتشديد المطالبة به، كأولوية، على حساب الدولة وحق السيادة، وعلى حساب مرجعية القانون الوطني أو مدونة التشريعات الوطنية.
لم يقع هذا التحول افتجاءً وعلى حين غِـرة، وإنما أخذ استنباته ثم إنضاجه من الوقت زمناً مديداً: من بداية الحرب العالمية الأولى حتى مطالع ثمانينيات القرن العشرين. ولقد ازدحمت فترة العقود السبعة هذه بحوادث سياسية مفصلية وذاتِ آثارٍ بعيدة (ليس أقلها الحربان العالميتان وميلاد النظام السوڤييتي الشيوعي وصعود النازية في ألمانيا وسقوطها ... ثم قيام نظام الأمم المتحدة)، تماما مثلما شهدت على تحولات فكرية كبرى في ميادين عدة تمتد من النظرية السياسية وفلسفة القانون إلى الفلسفة الوجودية. وما كان يمكن لمثل هذا الانقلاب (في المعادلة التي كان عليها مَبْنى الدولة) إلا أن ينال من معنى المواطَنة الموروث عن الفكر السياسي الحديث- بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر- وعن نموذج الدولة الوطنية الذي أنجبتْه الثورات الأوروبية والدستور الأمريكي.
ظلت المواطنة تعني، في نطاق هذا النموذج السياسي الموروث عن الحقبة المومأ إليها، تلك المنظومة من الحقوق المدنية والسياسية التي تنص عليها دساتير الدول الحديثة وتحيطها بالضمانات القانونية التي تصونها وتحميها من الانتهاك. وهي حقوقٌ يتلقاها أولئك المواطنون لقاء واجباتٍ يفرضها عليهم انتماؤهم إلى تلك الدول وتلْزِمهم بها تلك الدول، وليس دفْع الضرائب إلا واحداً منها؛ وقد تصل إلى أعلى أشكالها: ضريبة الدم، وهي التضحية من أجل الوطن والدولة. أما العلاقة التي تفتح أمام المواطن الباب إلى تحصيل حقوق المواطنة والتمتع بثمراتها فهي رابطة الولاء التي تشده إلى دولته وتَحْمله على الدفاع عنها واحترام قوانينها من حيث هي التعبير المادي عن الإرادة العامة. وإذا كان منطق الدولة الوطنية هو رعاية المصلحة العامة، فهو لا يتعارض في شيءٍ مع الميْل الطبيعي لدى كل مواطن إلى تحقيق مصلحته الخاصة، ولا مع سعْي الدولة وقوانينها إلى تأمين حقه المشروع في تحقيق المصلحة الخاصة؛ ذلك أن هذه الأخيرة لا تجد تَحققها المادي والقانوني، كما يقول هيجل، إلا من طريق تحقيق تلك المصلحة العامة.
إلى ذلك فإن مواطن الدولة الوطنية مواطنٌ بالولاء لها وباحترام القوانين لا بشيء آخر. لذلك لا يسأل منها -ولا فـيها- عن مَنابته ومشاربه: لا عن أصوله العرقية ولا دينِه ولا طائفته ما دام يتمتع بالمواطنة في الدولة ويؤدي واجباته تجاهها. ومثلما تكون الدولة مسؤولة عن حماية حقوقه المدنية والسياسية فيها، وملزَمة بذلك، تكون مسؤولة -بالدرجة عينِها- عن حمايته بحسبانه من رعاياها حين يكون خارجها (في أراضي دولة أخرى)؛ لأنـه -وإنْ لم يكن مشمولاً بقوانينها وبأحكام تلك القوانين مباشرةً حين يكون مقيماً تحت سقف قوانين دولةٍ أخرى غيرها- يظل مشمولاً برعايتها طالما ظل يحمل جنسيتها التي هي رمز ولائه لها والقرينة على وَلايتها عليه ... وعلى سيادتها بين الدول.
غير أن الأمور ما لبِثت أن جَرَتْ مجرًى آخرا، بعد ذلك، فَبَدَا كما لو أن معمار المواطَنة هذا بدأ يتداعى، بالتدريج، ومنذ فترةٍ تعود إلى ما قبل بدايات زحف العولمة بعقود، لِيفْسِح مجالاً أمام فشو مفهومٍ مقابل للمواطنة وعلاقاتٍ أخرى لها غير مألوفيْن. والأَنْكى أن إرادة إحداث الصدْع في مفهوم المواطَنة ذاك رَكِبَتْ لنفسها مرْكَب مفهوم رديفٍ سرعان ما سيستحيل إلى نقيضٍ أو بديل هو مفهوم حقوق الإنسان. كانت حقوق الإنسان تعني، عند فلاسفة العقد الاجتماعي، تلك الحقوق الطبيعية (=التي تمنحها الطبيعة) التي حولتها الدولة إلى حقوق مدنية واستدخلتْها في منظوماتها القانونية بما هي حقوقٌ للمواطنة تسلم بها الدولة وترعاها. بعبارةٍ أخرى اقترن الحق بإطار الدولة الوطنية، اقتراناً حصرياً، واكتسب معناه ومضمونَه منها بما هي دولةٌ لمواطنيها، ولم يحصل بينهما (=الحق والدولة) أي تجاف أو تناقضٍ أو تجاوز من النوع الذي سيحدث في زمنٍ لاحق من أزمنة الدولة الوطنية فيضع مفهوم المواطَنة في أزمة.
اقترن مفهوم المواطنة في ذلك الإبان (بين منتصف القرن السابع عشر والنصف الثاني من القرن التاسع عشر) بسياسات أوروبية قامت على ترسيخ مبدأ السيادة الوطنية الذي جرى التشديد على حاكميته في معاهدة ويستفاليا (1648) التي أنهت حرب الثلاثين عاماً، التي كانت جزءاً من الحروب الدينية في أوروبا. كان من البديهي، حينها، أن يتماهى مفهوم الإنسان ومفهوم المواطن فيؤلفان الكيانَ عينَه. هكذا لم ينْظَر إلى حقوق الإنسان الطبيعية، في الدول الوطنية الحديثة، إلا بما هي حقوق المواطن المدنية؛ حيث مجال تلك الحقوق وإطارها المرجعي هو عينه الدولة التي إليها ينتمي ذلك الإنسان- المواطن. ولم يبدأ هذا التمييز يطِل، رسمياً، على السياسة والفكر السياسي إلا مع الثورة الفرنسية (1789) في إعلانها الشهير عن حقوق الإنسان والمواطن الذي صادق مجلسها التأسيسي على وثيقته، ليبدأ -بعد ذلك الحين- مسلسل الخلط بين المفهوميْن.