سوريا.. والشرع من البنلادنية إلى الأردوغانية
المشهد السوري.. أحداث متسارعة ومرجل يغلي، وسقوط نظام لم يكشف عن أسبابه ونتائجه بعد، فمن المبكر الحديث عن صيغة سياسية مستقرة لسوريا الجديدة. المقال.. لا يقدم قراءة ناجزة لما سترسو عليه السفينة السورية، فنواخذة السياسة المحلية وربابنتها الدوليون لم يلقوا عصي تسيارهم، ولم يوضع الدستور الذي يحدد النظام القادم. وإنما يحاول أن يفهم الشخصية التي وصلت إلى عرش سوريا من بين عشرات المتسابقين إليه؛ وهو أبو محمد الجولاني بنسخته القديمة، وأحمد الشرع بنسخته الحالية. لا أقف عند الملابسات التي تحف بشخصية الجولاني، ولا تفاصيل تحولاته، وإنما أضعه في مرحلتين عامتين، في ظاهرهما مختلفتان، وفي باطنهما متتابعتان، والاختلاف بينهما تطور غير باتٍّ للعُرَى:
- مرحلة الإسلام السياسي.. أبو محمد الجولاني أحد أبرز قادة الجماعات المسلحة، التي تنتمي إلى الإسلام السياسي الذي بدأ ببداية القرن الميلادي المنصرم، ورغم بدء انحساره سياسيًا بمطلع هذا القرن إلا أن تأثيره العسكري لا يزال قائمًا. من أهم سمات هذا التيار: الاعتقاد بأن الأمة (لا يصلح آخرها إلا ما أصلح أولها)، مما جعل أتباعه سلفية. ورفض الوجود الإسرائيلي في فلسطين؛ بكونه احتلالًا للمقدسات الإسلامية واستنقاصا من سيادة الأمة. ورفض القيم الغربية باعتبارها جاهلية؛ وهذا استتبعه «جهاد الكفار والمرتدين»، وللوضع المأساوي الذي تعيشه البلاد الإسلامية؛ فقد كانت ساحتها مهيأة ليخوض بعض جماعات هذا التيار «الجهاد». ومن رحمه خرجت «قاعدة الجهاد» في أفغانستان، التي ابتدأت وانتهت على يد السعودي أسامة بن لادن (ت:2011م)، لكن الفكرة واصلت سيرها بصيغ مختلفة؛ أشدها قسوة داعش.
أبو محمد الجولاني.. منتمٍ إلى القاعدة، بمختلف جبهاتها وتبدل أسمائها كالقاعدة والنصرة وداعش وفتح الشام وهيئة تحرير الشام، التي كان الجولاني ممارسًا لعمله العسكري فيها بوعي، بخلاف ما صرّح به للصحافة بعد سيطرته على دمشق بأنه كان في مرحلة مراهقة.. بل تصوره بأن الدول لا تقوم إلا بحد السيف جعلته أقرب تصرفا لداعش، بما في ذلك تكنيه بأبي محمد الجولاني وإخفاؤه لشخصيته، بخلاف قيادات القاعدة الذين غالبًا لم يخفوا أسماءهم وشخصياتهم كأسامة بن لادن وأيمن الظواهري (ت:2022م).
إن الاستراتيجية التي اتبعها الجولاني هي استراتيجية القاعدة كما أسسها ابن لادن، ولذا أسميت مرحلته هذه «البنلادنية»، وأهم معلَمَين لها: أنه وضع «قاعدة لجهاده» في إدلب، وحشد المقاتلين إليها، ودمج فصائل القتال في هيئة واحدة، وهو ما كان ابن لادن يفعله في أفغانستان. وأنه استفاد من تداخل المصالح الدولية وتضاربها في سوريا؛ بما فيها الأمريكية، وإن كانت الأقرب إليه تركيا، كما أنه استفاد من دعم الخليجيين أثناء الثورة، وكذلك ابن لادن استفاد من باكستان والخليجيين والأمريكان.
إن الجولاني لم يكن يقلد ابن لادن تقليد المعجب.. بل كان يتمثله بوعي القائد، وبالأحرى؛ أنه انتسب لمدرسته وليس جنديًا في قاعدته. هذا الفارق الجوهري.. منح الجولاني براجماتية الدولة متجاوزًا إيديولوجية الجماعة، فابن لادن كان مشروعه «النكاية بالعدو البعيد»؛ وبالذات الأمريكي؛ لأنه في مرحلة «إنهاك العدو»، ولم تكن إقامة الدولة من أولويات مرحلته. أما الجولاني فمشروعه «التمكين»؛ أي إقامة الدولة، عبر «إدارة التوحش» -يقابلها عند الأمريكان «الفوضى الخلاقة»- وهذا ما يفسر انضمامه إلى «تنظيم الدولة الإسلامية»، ليجد نفسه في سوريا لكي يقيم عليها دولته المنشودة. كما أن ابن لادن لم يتوجه بالأساس في هجماته إلى المسلمين؛ بغض النظر عن اختلافه المذهبي معهم. أما الجولاني فقد وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الإيرانيين في سوريا، فحتم عليه مشروع الدولة أن يواجههم.
إن ما يقال بأن أبا محمد الجولاني صنيعة استخبارات غربية أو أنه أداة تركية لا تعضده الشواهد -مع عدم نفي تداخل المصالح بينهم- وهو اقتطاع للأحداث من سياقها العام لتطور جدلية العنف والدولة لدى المسلمين، ولا يبعد عندي أن القائلين بوجود «هذه المؤامرة» لم يستوعبوا بأنه يمكن أن تخرج قيادات قوية من المسلمين تشق طريقها، بغض النظر عن موقفنا منهم، وحكم الإسلام على أعمالهم، ونتائج أفعالهم التي قد يستغلها أعداء الأمة؛ فهذا من طبيعة الصراع ومفاجأته.
- مرحلة السياسة الإسلامية المدنية.. كما أسميتها عند حديثي عن تجربة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقال «أردوغان.. والسياسة الإسلامية»، والذي نشرته مشكورةً جريدة «عمان» بتاريخ: 29/ 5/ 2023م. قلت عن حزب العدالة والتنمية بأنه (لم يأتِ ثورةً على النظام العلماني الذي سبقه.. بل اعترف به، واعتمد أتاتوركَ رمزًا مؤسسًا للدولة التركية الحديثة. وآمن بالديمقراطية وعمل بمقتضاها. وقوّى الدولة التركية ولم يعادِ قوميتها.. بل أكد على مركزيتها، وربط بينها وبين الإسلام بجعل الخلافة العثمانية رمزًا سياسيًا للمسلمين، وأنها وقفت ضد «الغرب الصليبي». وتبنّى الحزبُ النظام الرأسمالي؛ مع محاولة تهذيب توحّشه بالقيّم الإسلامية. وعمل على التصالح مع القيّم الغربية، وسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يقطع علاقته بإسرائيل. ولم يستكِن للميكنة الغربية.. بل دفع بتركيا لأن تكون مساهِمة إقليميًا في البناء السياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي).
يبدو أن أبا محمد الجولاني بعد أن سيطر على دمشق، وغيّر اسمه إلى أحمد الشرع، وبدّل مظهره من الملابس العسكرية بالعمامة إلى الملابس المدنية بربطة العنق، ومن خلال تصريحاته الإعلامية ولقاءاته مع الوفود الدولية، يعمل على تأسيس دولة إسلامية مدنية في سوريا، ورأى أن النموذج الذي يمكن أن ينسج على منواله هو النموذج التركي؛ ممثلًا في تجربة حزب العدالة والتنمية، وذلك لدعم تركيا للمعارضة السورية؛ ومنها هيئة تحرير الشام، وهذا أهم مكسب ليرسّخ وجود الدولة السورية القادمة. ولأنه هو المثال القائم للسياسة الإسلامية، بعد أن فشل الإسلام السياسي في إقامة الدولة الإسلامية المنشودة، اللهم إلا الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي يقف منها الشرع موقف العداء لدعمها نظام الأسد.
إن السياق العام لممارسات أحمد الشرع؛ منذ وجوده في إدلب، حيث بدأ فيها يبني مؤسسات الدولة، تدلل بأنه سائر في الأخذ بالنموذج الأردوغاني؛ السياسة الإسلامية المدنية. فهو لن يكون منحازًا لفئة على حساب أخرى، ولا يعادي أية دولة ما لم تتدخل في الشأن السوري، ويعمل على إلغاء الفصائل العسكرية، بما فيها هيئة تحرير الشام وحركة «قسد» الكردية، وجمع أسلحتها وتسليمها لجيش الدولة، ولم يُبْدِ عداءً لإسرائيل. ووضع التفاصيل الفقهية التي تعتبرها الجماعات المسلحة من قضايا الدين كحجاب المرأة وتحريم شرب الخمر بيد القانون، وأنه سيحتكم إلى الدستور الذي يضعه الشعب السوري بكافة طوائفه وتياراته. كل هذه التصريحات.. تنبئ بأن قائلها يتبنى نموذج السياسة الإسلامية المدنية. وهذا التحول يقول به بعض المحللين السياسيين. ولكن من الوارد أن يتراجع الشرع عنه.. لغلبة الإسلام السياسي الذي تربى عليه، ولعمق تأثير هذا الفكر على المسلمين عمومًا.
السؤال.. إلى أي مدى يستطيع أحمد الشرع أن يواصل مرحلة السياسة الإسلامية المدنية التي سارت عليها تركيا الأردوغانية؟ سوريا.. حتى الآن لم تستقر، فهي في مرحلتها الانتقالية، والمنافسون المحليون ناشطون، والخصوم وذوو المصالح الخارجية لا يزالون لاعبين على الساحة السورية، فأي وضع قادم لا يمكن الجزم به؛ بما فيه الاقتتال الداخلي المؤجَّج من قوى خارجية.
ختامًا، لقد أثبتت السياسة الإسلامية المدنية نجاحها في تركيا؛ على الأقل تحت حكم العدالة والتنمية. وضمنتها تونس دستورها لعام 2014م؛ وإن جرى الانقلاب عليه، كما أن المسلمين سئموا من صراعات تيار الإسلام السياسي. ومع ذلك؛ سوف تجد صعوبة بالغة لكي يتمثلها المسلمون في المرحلة القادمة؛ لأنها تقوم بتغيير جذري في تفكير المسلمين الفقهي والعقدي وممارساتهم السياسية والاجتماعية.