سمات العبقرية

11 يناير 2022
11 يناير 2022

مفهوم "العبقرية" يشغل أدبيات العلوم الإنسانية في مجالات الفن والفلسفة وعلم النفس وغيرها، بل يكاد يكون هو المفهوم الأكثر تداولًا على ألسنة الناس في مجال الحياة اليومية حينما يريدون وصف إبداع أو عمل شخص ما بأنه يفوق فعل البشر. والواقع أن أصل كلمة العبقرية يؤكد هذا المعنى: فكلمة عبقري genius ترجع إلى الأصل العربي "جِنِّي"، و"الجِني" هو من ينتمي إلى واد يُسمى وادي عبقر الذي كانت العرب تعتقد أنه وادٍ تسكنه الجن، ولما كان الجن يأتون بأفعال لا يقدر عليها البشر؛ فقد وصف العرب كل من يأتي بمثل هذه الأفعال بأنه "جني" أو "عبقري"!

قد يبدو التفسير اللغوي لأصل الكلمة تفسيرًا تبسيطيًّا؛ لأنه يقوم على مجرد تأكيد القدرة الفائقة لندرة من البشر، ولكنه لا يبين لنا طبيعة هذه القدرة، وما هنالك من اختلافات بينها في المجالات المتنوعة: كالفن والأدب والعلم والفلسفة وغير ذلك. وفضلًا عن ذلك، فإن علماءَ النفس التجريبيين سوف يرفضون مفهوم العبقرية ذاته باعتباره مفهوما "كيفيًّا فضفاضًا"، ويرون أن ما نسميه بالعبقرية هو مجرد درجة عليا على مقاييس الذكاء؛ وعلى هذا فإن الاختلاف بين العبقري والشخص العادي هو اختلاف في درجة القدرات العقلية التي تكون لدى كل منهما، أي أنه اختلاف كمي وليس كيفيًّا.

والواقع أن هذا التصور لدى بعض المتحمسين لعلم النفس التجريبي لم يعد مقبولًا حتى في إطار بعض الاتجاهات المعاصرة في علم النفس؛ لأنه لا يبين لنا كيف ولماذا لا يبدع كل الأشخاص الذي يحصلون على درجات عليا في الذكاء أعمالًا فريدة لا يُبدع مثلها غيرهم ممن يحصلون أيضًا على هذه الدرجات العليا نفسها. ولذلك، فإننا لا بد أن نرجع إلى التفسير الكيفي لحالة الإبداع التي نصفها عادة بالعبقرية، أي تفسير ذلك الذي نصفه بأنه عمل يفوق أعمال البشر. ولهذا فإننا ينبغي ألا نستهين بالأصول اللغوية الأولى للكلمات المتعلقة بالعبقرية التي تنبع من الحكمة المباشرة، ولا أن نستهين بالتأملات الفلسفية العميقة لظاهرة العبقرية؛ لأن هذه الأصول والتأملات هي استبصارات يمكن أن تشكل فروضًا قوية للبحث التجريبي في علم النفس، بل في علم تشريح المخ نفسه.

الدراسات العلمية المعاصرة للعبقرية تؤكد كثيرًا من التأملات الفلسفية حول مفهوم العبقرية، ومن هذه الدراسات ما يتعلق بالفسيولوجيا والتشريح، ومنها ما يتعلق بالسيكولوجيا وغيرها. ولا شك في أن التفسير الكمي له أصوله في هذه التأملات: لقد لاحظ شوبنهاور منذ قرنين من الزمان أن علماء التشريح قد وجدوا أن وزن مخ العباقرة كان أكبر من المعتاد بكثير، وأن نسيجه يزداد فيه كم المادة البيضاء بالنسبة إلى المادة الرمادية. التقرير التشريحي لفحص جثمان بيرون يذكر أن حالته تبيِّن أن مساحة المادة البيضاء كانت ضخمة بشكل غير اعتيادي بالنسبة إلى المادة الرمادية، وأن وزن مخه بلغ ستة أرطال. وقد بلغ وزن مخ كوفييه Cuvier خمسة أرطال؛ بينما الوزن العادي هو ثلاثة أرطال.

ولكن هناك سمات أخرى كيفية أو نوعية تتعلق بطبيعة العبقرية: فقد لاحظ شوبنهاور أيضًا أن الاكتئاب يكاد يكون ملازمًا للعبقرية، وهذا أيضًا هو ما لاحظه أرسطو من قديم الزمان بقوله: "إن العباقرة جميعًا مكتئبون"، وهو قول لم يلتفت إليه ولم يتوقف عنده الدارسون العرب الذين صدعوا رؤوسنا بالمشهور عن سائر كتابات أرسطو؛ ولكن شوبنهاور توقف عند ذلك طويلًا، ليبين لنا لماذا يكون العباقرة مكتئبين. ومن المدهش أن الدراسات السيكولوجية المعاصرة تُظهِر لنا بعضًا من الأمراض النفسية التي يمكن أن تقترن بالعبقرية، مثل: الاكتئاب ثنائي القطب. وربما يرجع ذلك إلى أن العبقري بحكم تكوين مخه يشعر بأنه مختلف عن العالم الذي يوجد فيه، أو بمعنى أدق عن البشر الذين يوجدون في هذا العالم، وهو العالم الذي يراه بطريقة مختلفة تمامًا عن رؤيتهم له.

إن مسألة الاختلاف في درجة الذكاء يمكن أن تفسر لنا بالتأكيد الاختلاف بين الشخص العادي والشخص الموهوب في قدرة ما من القدرات، بحيث يمكن القول-استنادًا إلى بعض فروض البحث التجريبي السيكولوجي-إن الأطفال الذين يُظهِرون قدرات لفظية في فترة مبكرة هم الأطفال الذين يمكن أن يصيروا شعراء أو أدباء بوجه عام. ولكن العبقرية شأن آخر؛ لأن درجة الاختلاف في القدرات الذهنية تبلغ حدًا يصبح فيه هذا الاختلاف الكمي اختلافًا كيفيًّا. ومن هنا، فإننا يمكن أن نفهم القول بأن الموهوب يتمتع بدرجة عليا من القدرة على المرونة والتكيف الاجتماعي، وهو ما ينعكس في إبداعه الذي يكون دائمًا قادرًا على أن يخاطب معاصريه. ولكن حال العبقري حال آخر، فاختلافه عن الشخص العادي يبلغ حدًا يجعله يبدو كما لو كان غير قادر على التكيف مع عصره أو مع قواعده ومبادئه، وكما لو كان يخاطب القلة القليلة النادرة في عصره التي يمكن أن تفهم ما يبدعه.

ومن هنا، فإننا نرى أن الدراسات السيكولوجية التي تحاول تفسير العبقرية من خلال تتبع حياة العبقري وأسلوب تنشئته الاجتماعية، هي دراسات قد تكون مفيدة فقط من حيث تفسير بعض السمات الشخصية التي ميزت بعض العباقرة، ولكنها لا تفيدنا كثيرًا في تفسير سمات إبداعه الفني نفسها؛ فلا شيء من ذلك يمكن أن يفسر العبقرية في إبداع جملة موسيقية واحدة مما أبدعه بيتهوفن أو تشايكوفسكي- على سبيل المثال-في أعمالهما الخالدة.

فحوى القول إن العبقرية تظل ظاهرة كيفية، لا مجرد ظاهرة كمية؛ وبالتالي لا يمكن قياسها باعتبارها درجة عليا من السمات التي توجد لدى عموم البشر، وإنما يمكن فهمها فقط باعتبارها سمات نوعية ناتجة عن طفرة في بعض القدرات العقلية قد دعمتها وأبقت عليها عوامل معينة تنتمي إلى الظروف والأحوال التي نشأ فيها العبقري.

• د. سعيد توفيق كاتب مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة