سليم سحاب.. الموسيقي والمؤرخ والناقد
عرفت الأوساط الثقافية والفنية اسم سليم سحاب الموسيقي الكبير، لكن الكثيرين لا يعرفون سليم سحاب الناقد الفني والمؤرخ الموسيقي والمثقف، فقد طغت عبقريته في قيادة الفرق الموسيقية، على عمله النقدي وتأليفه الموسيقي منذ بداية سبعينات القرن الماضي، عقب الانتهاء من دراسته الموسيقية في موسكو، التي أهلته لقيادة فرقة الكورال في لبنان متأثرا بموسيقى بيتهوڤن، التي كان يراها البعض موسيقى برجوازية ورجعية لدرجة أن بلدا كالصين منعت إذاعة موسيقاه، ورغم ذلك كان يراه سليم سحاب النموذج المثالي للموسيقى.
عقب عودة سليم سحاب من موسكو إلى لبنان في ديسمبر ١٩٧٧، راح يكتب في الصحف والمجلات اللبنانية في قضايا الفن والفكر والموسيقى، ودخل في معارك فنية وفكرية جميعها تتعلق بالفن والتراث الموسيقي العربي، أسس بعدها فرقة بيروت للموسيقى العربية، وكورال للأطفال تلقاه المجتمع اللبناني بكل حفاوة وتقدير، ودائما ما كان يلح عليه السؤال: هل الأولوية في الموسيقى للعلم أم للموهبة؟ وانتهى إلى رأي واضح، فقد فضل الموهوب غير المتعلم على المتعلم غير الموهوب، ثم فضل على الاثنين الموهوب المتعلم، وهي قضية تناولتها الصحف اللبنانية والعربية وقتئذ، وخصوصا حينما رآه البعض نصيرا للفوضى الموسيقية، كما خاض معارك صحفية عقب إصدار اليونسكو ١٩٧٩، قائمة تضم 13 لحنًا للموسيقار محمد عبد الوهاب، قالت بأنها مأخوذة من الموسيقى العالمية، وقد خاض سليم سحاب حربا ضارية ضد اليونسكو، مفندا وجهة نظر القائلين بهذا الرأي.
رغم أن الأوساط الثقافية والفنية قد عرفت سليم سحاب موسيقيا وكاتبا في مختلف القضايا الفكرية والفنية، إلا أن الكثيرين لا يعرفون ارتباط الرجل بقضايا العروبة، وإيمانه بأن لبنان جزء أصيل من محيطها العربي، وأنها خدمت الثقافة العربية في الأدب والفن والفكر، كان ارتباطها دائما بأمتها العربية، وراح يكتب عن عروبة لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية ١٩٧٥-١٩٩٠، بينما راح البعض يسعى لعزل لبنان عن محيطه العربي، وخصوصا عن مصر، التي كان يراها بعض الفنانين اللبنانيين قد شكلت غزوًا ثقافيا وفنيًا، وقد وجهوا سهامهم إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وراح بعضهم يشيد بالموسيقى الغربية، وكانت معركة خاضها سليم سحاب دفاعًا عن عروبة لبنان سياسيًا وثقافيًا وفنيًا، لذا أسس فرقة موسيقية عُنيت بموسيقى التراث العربي القديم منه والجديد، مقتديا بفرقة عبد الحليم نويرة للموسيقى العربية في مصر.
استقر سليم سحاب في مصر منذ عام ١٩٨٨، واستقبلته الأوساط الفنية والاجتماعية بكل حفاوة، بعدها حصل على الجنسية المصرية ١٩٩٤، وفتحت له دار الأوبرا المصرية أبوابها، وخصصت له حفلا موسيقيا أسبوعيا بشكل دوري، واستقبلته الجماهير المصرية استقبالًا منقطع النظير، انطلق بعدها إلى معظم العواصم العربية، والكثير من العواصم الأوروبية، قائدًا للفرقة القومية العربية للموسيقى التي أسسها، وفي خضم هذه الأعمال الكبيرة كتب كتابه المهم (أعلام موسيقية)، وقد نشرته دار الكتب والوثائق المصرية عام ٢٠١٤، وقد تناول فيه أعلام الموسيقى والغناء في مختلف الأقطار العربية، وهي دراسات سبق أن كتبها ونشر بعضها في سنوات متعددة، من بينها الأعلام الفنية المصرية والمشرقية مثل فريد الأطرش وأسمهان والموسيقار الفلسطيني اللبناني سلفادور عرنيطة، الذي تتلمذ على يديه في كونسرفتوار بيروت ما بين عامي ١٩٦١-١٩٦٥، ولم يغفل من الموسيقيين الغربيين بيتهوڤن وشوبرت وكرايان، فضلا عن موسيقيين ومطربين مثل عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان والقصبجي والسنباطي وزكريا أحمد وفيروز ووديع الصافي وسعاد محمد وفايزة أحمد وغيرهم .
ما كتبه سليم سحاب عن هؤلاء الأعلام لم يكن مجرد سيرة ذاتية، وإنما كان محللا وناقدا ومحلقا بموسيقاه في عوالم أبهرت جمهور الأوبرا المصرية، فضلا عن فيض المعلومات الموسيقية والفنية، من قبيل الفرق بين الطقطوقة والمونولوج، والفروق الفنية بين الفنانين الكبار مثل القصبجي وزكريا أحمد وعبد الوهاب، وهي ثقافة حظيت بعناية المجتمع الثقافي والفني، وخصوصا حينما يكون كاتبها موسيقيا ومؤرخا وناقدا فنيا في قيمة سليم سحاب، ورغم ذلك فلم يتخل عن إعجابه الشخصي ببعض من كانوا يطربونه بموسيقاهم وأغانيهم التي أبهرته وأدخلته في عوالم فسيحة من المتعة والجمال.
ورغم أن الكتاب لم يشمل كل الفنانين والموسيقيين العرب، إلا أن ما قدمه كان كافيا حينما قدم لنا وجبة وافية من المتعة الفنية والثقافية لرجل عرفناه حاملا عصاه قائدا لفرقة الموسيقى العربية، ولم يسبق لنا أن عرفناه كاتبا، إلا أن ما قدمه لنا من معلومات موسيقية شملت أعلامها ومدارسها ومختلف عوالمها، محلقا في سموات الفن والجمال، جميعها شكلت منظومة ضاعفت من رقة الإنسان وجعلته قريبا من عوالم الجمال والمتعة، لعل هذا كله يدعونا إلى العناية بالفنون الموسيقية في مدارسنا وجامعاتنا ومنتدياتنا الاجتماعية، فهي المقوم الأول لبناء الإنسان وتهذيب وجدانه وارتباطه بالجمال الذي لا يتوفر إلا في الموسيقى.
لقد كان الرجل ملهما لأجيال أتت بعده، وقد أخذتهم الموسيقى برقتها وجمالها، وبقي طوال حياته بمثابة الأستاذ الذي أخذ على عاتقه العناية بشباب من الموسيقيين والمطربين، ليس في مصر فقط وإنما في كل الأقطار العربية، حيث يدين له الكثيرون بتنمية مواهبهم، وتصدر بعضهم المشهد الفني، وأشاعوا في حياتنا قدرا هائلا من الجمال والمتعة.
إن ما أنجزه سليم سحاب في مجال الموسيقى والغناء، وما سطره في كتابه (أعلام موسيقية) يستحق التقدير والامتنان، سواء من جيل الكبار أو الشباب، فقد حفزنا على الاستماع إلى هؤلاء الأعلام الذين شكلوا حياة كانت أجمل وأرحب وأرقى، كما تحفزنا سيرته الفنية على متابعة موسيقاه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن أتاحت لنا التكنولوجيا الكثير من إبداعاته، التي ستبقى ربما لقرون قادمة علامة مضيئة في تاريخ الموسيقى العربية.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.